قوله تعالى : { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر } قال الزجاج : هذا من صفة ناصريه ، ومعنى { مكناهم } نصرناهم على عدوهم حتى يتمكنوا من البلاد . قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال الحسن : هذه الأمة { ولله عاقبة الأمور } يعني : آخر أمور الخلق ومصيرهم إليه ، يعني : يبطل كل ملك سوى ملكه ، فتصير الأمور إليه بلا منازع ولا مدع .
ثم ذكر علامة من ينصره ، وبها يعرف ، أن من ادعى أنه ينصر الله وينصر دينه ، ولم يتصف بهذا الوصف ، فهو كاذب فقال : { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : ملكناهم إياها ، وجعلناهم المتسلطين عليها ، من غير منازع ينازعهم ، ولا معارض ، { أَقَامُوا الصَّلَاةَ } في أوقاتها ، وحدودها ، وأركانها ، وشروطها ، في الجمعة والجماعات .
{ وَآتُوا الزَّكَاةَ } التي عليهم خصوصا ، وعلى رعيتهم عموما ، آتوها أهلها ، الذين هم أهلها ، { وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ } وهذا يشمل كل معروف حسنه شرعا وعقلا ، من حقوق الله ، وحقوق الآدميين ، { وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ } كل منكر شرعا وعقلا ، معروف قبحه ، والأمر بالشيء والنهي عنه يدخل فيه ما لا يتم إلا به ، فإذا كان المعروف والمنكر يتوقف على تعلم وتعليم ، أجبروا الناس على التعلم والتعليم ، وإذا كان يتوقف على تأديب مقدر شرعا ، أو غير مقدر ، كأنواع التعزير ، قاموا بذلك ، وإذا كان يتوقف على جعل أناس متصدين له ، لزم ذلك ، ونحو ذلك مما لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا به .
{ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } أي : جميع الأمور ، ترجع إلى الله ، وقد أخبر أن العاقبة للتقوى ، فمن سلطه الله على العباد من الملوك ، وقام بأمر الله ، كانت له العاقبة الحميدة ، والحالة الرشيدة ، ومن تسلط عليهم بالجبروت ، وأقام فيهم هوى نفسه ، فإنه وإن حصل له ملك موقت ، فإن عاقبته غير حميدة ، فولايته مشئومة ، وعاقبته مذمومة .
ثم وصف - سبحانه - هؤلاء المؤمنين الذين وعدهم بنصره بأكرم الصفات ليميزهم عن غيرهم فقال : { الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور } .
أى : ولينصرن الله - تعالى - هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ، والذين من صفاتهم أنهم إذا ما مكنا لهم فى الأرض ، ونصرناهم على أعدائهم ، شكروا لنا ما أكرمناهم به ، فأقاموا الصلاة فى مواقيتها بخشوع وإخلاص ، وقدموا زكاة أموالهم للمحتاجين ، وأمروا غيرهم بالمعروف ونهوه عن المنكر ، ولله - تعالى - وحده عاقبة الأمور ومردها ومرجعها فى الآخرة ، فيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب .
فالآية الكريمة تبين أن أولى الناس بنصر الله ، هم هؤلاء المؤمنون الصادقون ، الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر . . . .
وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله - تعالى - : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } وقوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ . . . }
( الذين إن مكناهم في الأرض ) . . فحققنا لهم النصر ، وثبتنا لهم الأمر . . ( أقاموا الصلاة ) . . فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به ، واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين . . ( وآتوا الزكاة ) . . فأدوا حق المال ، وانتصروا على شح النفس ، وتطهروا من الحرص ، وغلبوا وسوسة الشيطان ، وسدوا خلة الجماعة ، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج ، وحققوا لها صفة الجسم الحي - كما قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " . .
( وأمروا بالمعروف ) . . فدعوا إلى الخير والصلاح ، ودفعوا إليه الناس . . ( ونهوا عن المنكر ) . . فقاوموا الشر والفساد ، وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تبقى على منكر وهي قادرة على تغييره ، ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه . .
هؤلاء هم الذين ينصرون الله ، إذ ينصرون نهجه الذي أراده للناس في الحياة ، معتزين بالله وحده دون سواه . وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين .
فهو النصر القائم على أسبابه ومقتضياته . المشروط بتكاليفه وأعبائه . . والأمر بعد ذلك لله ، يصرفه كيف يشاء ، فيبدل الهزيمة نصرا ، والنصر هزيمة ، عندما تختل القوائم ، أو تهمل التكاليف : ( ولله عاقبة الأمور ) . .
إنه النصر الذي يؤدي إلى تحقيق المنهج الإلهي في الحياة . من انتصار الحق والعدل والحرية المتجهة إلى الخير والصلاح . المنظور فيه إلى هذه الغاية التي يتوارى في ظلها الأشخاص والذوات ، والمطامع والشهوات . .
وهو نصر له سببه . وله ثمنه . وله تكاليفه . وله شروطه . فلا يعطى لأحد جزافا أو محاباة ولا يبقى لأحد لا يحقق غايته ومقتضاه . .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الربيع الزَّهْرَاني ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب وهشام ، عن محمد قال : قال عثمان بن عفان : فينا نزلت : { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ } ، فأخرجنا من ديارنا بغير حق ، إلا أن قلنا : " ربنا الله " ، ثم مُكنّا في الأرض ، فأقمنا الصلاة ، وآتينا الزكاة ، وأمرنا بالمعروف ، ونهينا عن المنكر ، ولله عاقبة الأمور ، فهي لي ولأصحابي .
وقال أبو العالية : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال الصباح بن سوادة الكندي : سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول : { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ } الآية ، ثم قال : إلا أنها ليست على الوالي وحده ، ولكنها على الوالي والمولى عليه ، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذَلكم ، وبما للوالي عليكم منه ؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم ، وأن يأخذ لبعضكم من بعض ، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع ، وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكرهة ، ولا المخالف سرها علانيتها .
وقال عطية العوفي : هذه الآية كقوله : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ [ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ] {[20317]} } [ النور : 55 ] .
وقوله : { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ } ، كقوله تعالى { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 83 ] .
وقال زيد بن أسلم : { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ } : وعند الله ثواب ما صنعوا .
قالت فرقة : هذه الآية في الخلفاء الأربعة ومعنى هذا التخصيص أن هؤلاء خاصة مكنوا في الأرض من جملة الذين يقاتلون المذكورين في صدر الآية ، والعموم في هذا كله أبين وبه يتجه الأمر في جميع الناس ، وإنما الآية آخذة عهداً على كل من مكنه الله ، كل على قدر ما مكن ، فأما { الصلاة } و { الزكاة } فكل مأخوذ بإقامتها وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكل بحسب قوته والآية أمكن ما هي في الملوك ، و { المعروف } و { المنكر } يعمان الإيمان والكفر دونهما ، وقالت فرقة : نزلت هذه الاية في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة من الناس وهذا على أن { الذين } بدل من قوله { يقاتلون } [ الحج : 39 ] أو على أن { الذين } تابع ل { من } في قوله { من ينصره } [ الحج : 40 ] ، وقوله { ولله عاقبة الأمور } توعد للمخالف عن هذه الأوامر التي تقتضيها الآية لمن مكن .