{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل واتبع أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } .
قال القرطبى : قوله { فأسر . . } قرئ فاسر وقرئ فأسر ، بوصل الهمزة وقطعها لغتان فصيحتان . قال - تعالى - { والليل إِذَا يَسْرِ . . } وقال : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً . . } وقيل : فأسر تقال لمن سار من أول الليل . . وسرى لمن سار في آخره ، ولا يقال في النهار إلا سار .
وقوله { بِقِطْعٍ مِّنَ الليل . . } أى : بجزء من الليل . والمراد به الجزء الأخير منه .
أى : قال الملائكة للوط - عليه السلام - بعد أن أزالوا خوفه منه : يا لوط إنا نأمرك - بإذن الله تعالى - أن تخرج من هذه المدينة التي تسكنها مع قومك وأن يخرج معك أتباعك المؤمنون ، وليكن خروجكم في الجزء الأخير من الليل .
وقوله { واتبع أدبارهم } أى : وكن وراءهم لتطلع عليهم وعلى أحوالهم .
قال الإِمام ابن كثير : يذكر الله - تعالى - عن الملائكة أنهم أمروا لوطا أن يسرى بأهله بعد مضى جانب من الليل ، وأن يكون لوط - عليه السلام - يمشى وراءهم ليكون أحفظ لهم .
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى في الغزاة يزجى الضعيف ، ويحمل المنقطع .
وقوله { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } أى : ولا يلتفت منكم أحد أيها المؤمنون - خلفه ، حتى لا يرى العذاب المروع النازل بالمجرمين .
وإنما أمرهم - سبحانه - بعدم الالتفات إلى الخلف ، لأن من عادة التارك لوطنه ، أن يلتفت إليه عند مغادرته ، كأنه يودعه .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما معنى أمره باتباع أدبارهم ونهيهم عن الالتفات ؟
قلت : قد بعث الله الهلاك على قوم لوط ، ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم وخرج مهاجرا فلم يكن له بد من الاجتهاد في شكر الله ، وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك ، فأمر بأن يقدِّمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه ، وليكون مطلعًا عليهم وعلى أحوالهم ، فلا تفرط منهم التفاتة احتشاما منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحال المهولة المحذورة ، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه العذاب ، وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدم سربه ويفوت به .
ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا له ، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ، ويمضوا قدماً غير ملتفتين إلى ما وراءهم ، كالذى يتحسر على مفارقة وطنه . . .
أو جعل النهى عن الالتفات ، كناية عن مواصلة السير ، وترك التوانى والتوقف ، لأن من يتلفت لابد له في ذلك من أدنى وقفة .
وقوله { وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } إرشاد من الملائكة للوط - عليه السلام - إلى الجهة التي أمره الله - تعالى - بالتوجه إليها .
أى : وامضوا في سيركم إلى الجهة التي أمركم الله - تعالى - بالسير إليها ، مبتعدين عن ديار القوم المجرمين ، تصحبكم رعاية الله وحمايته .
قيل : أمروا بالتوجه إلى بلاد الشام ، وقيل إلى الأردن ، وقيل إلى مصر .
ولم يرد حديث صحيح يحدد الجهة التي أمروا بالتوجه إليها ، ولكن الذي نعتقده أنهم ذهبوا بأمر الله - تعالى - إلى مكان آخر ، أهله لم يعملوا ما كان يعمله العادون من قوم لوط - عليه السلام - .
فجاءه التوكيد بعد التوكيد ، لإدخال الطمأنينة عليه قبل إلقاء التعليمات إليه :
( فأسر بأهلك بقطع من الليل . واتبع أدبارهم ، ولا يلتفت منكم أحد ، وامضوا حيث تؤمرون )
والسرى سير الليل ، والقطع من الليل جزؤه . وقد كان الأمر للوط أن يسير بقومه في الليل قبل الصبح ، وأن يكون هو في مؤخرتهم يتفقدهم ولا يدع أحدا منهم يتخلف أو يتلكأ أو يلتفت إلى الديار على عادة المهاجرين الذين يتنازعهم الشوق إلى ما خلفوا من ديارهم فيتلفتون إليها ويتلكأون .
يذكر تعالى عن الملائكة أنهم أمروه أن يَسري بأهله بعد مضي جانب من الليل ، وأن يكون لوط ، عليه السلام ، يمشي وراءهم ، ليكون أحفظ لهم .
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في الغَزاة بما كان يكون{[16201]} ساقة ، يُزجي الضعيف ، ويحمل المنقطع{[16202]}
وقوله : { وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ } أي : إذا سمعتم الصيحة بالقوم فلا تلتفتوا إليهم ، وذروهم فيما حل بهم من العذاب والنكال { وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } كأنه كان معهم من يهديهم السبيل .
{ فأسر بأهلك } فاذهب بهم في الليل ، وقرأ الحجازيان بوصل الهمزة من السرى وهما بمعنى وقرئ " فسر " من السير . { بقطعٍ من الليل } في طائفة من الليل وقيل في آخره قال :
افتحي الباب وانظري في النجوم *** كم علينا من قطع ليل بهيم
{ واتبع أدبارهم } وكن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على حالهم . { ولا يلتفت منكم أحد } لينظر ما وراءه فيرى من الهول ما لا يطيقه أو فيصيبه ما أصابهم أو لا ينصرف أحدكم ولا يتخلف امرؤ لغرض فيصيبه العذاب . وقيل نهوا عن الالتفات ليوطئوا نفوسهم على المهاجرة . { وامضوا حيث تؤمرون } إلى حيث أمركم الله بالمضي إليه ، وهو الشام أو مصر فعدي { وامضوا } إلى " حيث وتؤمرون " إلى ضمير المحذوف على الاتساع .