إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَٱتَّبِعۡ أَدۡبَٰرَهُمۡ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٞ وَٱمۡضُواْ حَيۡثُ تُؤۡمَرُونَ} (65)

وقوله تعالى : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } شروعٌ في ترتيب مبادي النجاةِ ، أي اذهبْ بهم في الليل ، وقرئ بالوصل وكلاهما من السرى وهو السيرُ في الليل ، وقرئ فسِرْ من السير { بِقِطْعٍ مّنَ الليل } بطائفة منه أو من آخره قال : [ الخفيف ]

فتحي الباب وانظُري في النجوم *** كم علينا من قِطْع ليلٍ بهيم{[478]}

وقيل : هو بعد ما مضى منه شيءٌ صالح { واتبع أدبارهم } وكن على أثرهم تذودُهم وتسرع بهم وتطّلع على أحوالهم ، ولعل إيثارَ الإتباع على السَّوْق مع أنه المقصودُ بالأمر للمبالغة في ذلك ، إذ السَّوْقُ ربما يكون بالتقدم على بعض مع التأخر عن بعض ويلزَمه عادةً الغفلةُ عن حال المتأخر ، والالتفاتُ المنهيُّ عنه بقوله تعالى : { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ } أي منك ومنهم { أَحَدٌ } فيرى ما وراءه من الهول فلا يطيقه ، أو يصيبه ما أصابهم ، أو ولا ينصرفْ منكم أحدٌ ولا يتخلفْ لغرض فيصيبه العذاب ، وقيل : نُهوا عن ذلك ليوطنوا أنفسهم على المهاجرة ، أو هو نهي عن ربط القلب بما خلّفوه ، أو هو للإسراع في السير فإن الملتفتَ قلما يخلو عن أدنى وقفة ، وعدمُ ذكر استثناء المرأةِ من الإسراء والالتفات لا يستدعي عدم وقوعِه ، فإن ذلك لما عرفت مراراً للاكتفاء بما ذكر في مواضعَ أخَرَ { وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } إلى حيث أمركم الله تعالى بالمُضيّ إليه وهو الشام أو مصر ، وحذفُ الصلتين على الاتساع المشهور ، وإيثارُ المضيِّ إلى ما ذكر على الوصول إليه واللُّحوق به للإيذان بأهمية النجاةِ ولمراعاة المناسبةِ بينه وبين ما سلف من الغابرين .


[478]:البيت بلا نسبة في لسان العرب (قطع)؛ وتاج العروس (قطع)؛ وديوان الأدب 1/188، وكتاب العين 1/139.