الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَٱتَّبِعۡ أَدۡبَٰرَهُمۡ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٞ وَٱمۡضُواْ حَيۡثُ تُؤۡمَرُونَ} (65)

وقرىء : «فأسر » بقطع الهمزة ووصلها ، من أسرى وسرى . وروى صاحب الإقليد : فسر ، من السير والقطع في آخر الليل . قال :

افْتَحِى الْبَابَ وانْظُرِي في النُّجُوم *** كَمْ عَلَيْنَا من قِطعِ لَيْلٍ بَهِيم

وقيل : هو بعد ما يمضي شيء صالح من الليل .

فإن قلت : ما معنى أمره باتباع أدبارهم ونهيهم عن الالتفات ؟ قلت قد بعث الله الهلاك على قومه ، ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم ، وخرج مهاجراً فلم يكن له بدّ من الاجتهاد في شكر الله وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك ، فأمر بأن يقدّمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه ، وليكون مطلعاً عليهم وعلى أحوالهم ، فلا تفرط منهم التفاتة احتشاماً منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحال المهولة المحذورة ، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه العذاب ، وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدّم سربه ويفوت به ، ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم ، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ويطيبوها عن مساكنهم ، ويمضوا قدماً غير ملتفتين إلى ما وراءهم كالذي يتحسر على مفارقة وطنه فلا يزال يلوي إليه أخادعه ، كما قال :

َلَفَّتُّ نَحْوَ حَييِّ حتى وَجَدتُنِي *** وَجِعْتُ مِنَ الإِصْغَاءِ لِيتاً وَأَخْدَعَا

أو جعل النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف ، لأنّ من يلتفت لا بدّ له في ذلك من أدنى وقفة { حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } قيل هو مصر وعدي { وامضوا } الى { حيث } تعديته الى الظرف المبهم لأن { حَيْثُ } مبهم في الأمكنة ، وكذلك الضمير في { تَأْمُرُونَ } وعدي .