بدأت السورة بذكر هزيمة الروم ، ووعد الله المؤمنين أن ينصرهم على الفرس ، ودعت إلى التفكير في خلق الله ، والسير في الأرض ، ليعرفوا عاقبة الكافرين الذين عمروا الأرض أكثر مما عمرها قريش ، وعرضت لحال الناس يوم القيامة ، ونوهت بتسبيح المؤمنين لله وعبادتهم إياه في الغداة والعشي والظهيرة والأصيل . ونبهت إلى دلائل وحدانية الله بتعاقب الليل والنهار واختلاف الألسنة ومظاهر الكون في السماوات والأرض ، وضربت الأمثال التي تدل على بطلان الشرك ، وذكرت الناس بخلق الله لهم ونعمه عليهم ، وقوت دعائم الأسرة وأواصر المجتمع ، وعنيت بالتشريع فحرمت الربا ، وشرعت الزكاة وحثت على البر بالأقربين .
ثم امتن الله سبحانه على عباده ودعاهم إلى التدين والطاعة ، ووجه أنظارهم إلى ما في الكون من عجائب تدل على مبلغ القوة والقدرة ، وبين أطوار الإنسان إلى أن يبلغ أرذل العمر .
وأشارت الآيات الأخيرة إلى يوم القيامة وكفر المشركين به ، وختمت السورة بالنصح للرسول صلى الله عليه وسلم يثبت في الحق ، ويصبر على ما يلقى ، فإن وعد الله آت لا محالة .
1- بدأت السورة بهذه الآية لبيان أن القرآن مؤلف من هذه الحروف التي ينطق بها العرب في سهولة ووضوح ، ولكن المنكرين له عجزوا عن الإتيان بمثله . وهي - كذلك - تُنَبِّه الناس إلى الاستماع والإنصات . وتحملهم على التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم{[172]} .
1- سورة الروم هي السورة الثلاثون في ترتيب المصحف أما ترتيبها في النزول فهي السورة الثانية والثمانون ، وقد كان نزولها بعد سورة الانشقاق .
2- وقد افتتحت بالحديث عن قصة معينة ، وهي قصة الحروب التي دارت بين الفرس والروم ، والتي انتهت في أول الأمر بانتصار الفرس ، ثم كان بعد ذلك للروم .
قال –تعالى- : [ الم . غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون . وفي بضع سنين ، لله الأمر من قبل ومن بعد ، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ] .
3- ثم وبخت السورة الكريمة الكافرين ، لعدم تفكرهم في أحوال أنفسهم ، وفي أحوال السابقين الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا ، وتوعدتهم بسوء المصير بسبب انطماس بصائرهم ، وإعراضهم عن دعوة الحق ، ووعدت المؤمنين بحسن الجزاء .
قال –تعالى- : [ ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون . فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون . وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة ، فألئك في العذاب محضرون ] .
4- ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك اثني عشر دليلا على وحدانية الله –تعالى- وقدرته ، وقد بدئت هذه الأدلة بقوله –تعالى- : [ ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها ، وجعل بينكم مودة ورحمة ، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون . ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ، إن في ذلك لآيات للعالمين . ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ] .
5- وبعد أن أقام –سبحانه- هذه الأدلة المتعددة على وحدانيته وقدرته ، أتبع ذلك بأن أمر الناس باتباع الدين الحق ، وبالإنابة إليه –تعالى- فقال : [ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله ، وذلك الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين ] .
6- ثم بين –سبحانه- أحوال الناس في السراء والضراء ، ودعاهم إلى التعاطف والتراحم ، ونفرهم من تعاطي الربا ، فقال –تعالى- : [ فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ، ذلك خير للذين يريدون وجه الله ، وأولئك هم المفلحون . وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ] .
7- ثم ساق –سبحانه- بعد ذلك ألوانا من نعمه على عباده ، وبين الآثار السيئة التي تترتب على جحود هذه النعم ، ودعا الناس للمرة الثانية إلى اتباع الدين القيم ، الذي لا يقبل الله –تعالى- دينا سواء ، فقال –تعالى- : [ فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصَّدَّعون . من كفر فعليه كفره ، ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ] .
8- ثم عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن نعمة الله في الرياح وفي إرسال الرسل ، وأمر كل عاقل أن يتأمل في آثار هذه النعم ، ليزداد إيمانا على إيمانه ، فقال –تعالى- [ فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها ، إن ذلك لمحيي الموتى ، وهو على كل شيء قدير ] .
9- ثم ختم –سبحانه- السورة الكريمة ببيان أهوال الساعة ، وحكى أقوال أهل العلم والإيمان ، في ردهم على المجرمين عندما يقسمون أنهم ما لبثوا في هذه الدنيا سوى ساعة واحدة ، وأمر –سبحانه- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر على أذى أعدائه ، فقال –تعالى- : [ فاصبر إن وعد الله حق ، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ] .
10- وهكذا نجد أن سورة " الروم " قد أفاضت في الحديث عن الأدلة المتعددة ، التي تشهد بوحدانية الله –تعالى- وقدرته ، كما تشهد بأن هذا القرآن من عند الله ، وبأن يوم القيامة حق وصدق ، كما ساقت آيات متعددة في المقارنة بين مصير الأخيار ، ومصير الأشرار ، ودعت الناس إلى الثبات على الدين الحق . وهو دين الإسلام ، كما حضت على التعاطف والتراحم بين المسلمين ، ونهت عن تعاطي الربا ، لأنه لا يربو عند الله –تعالى- ، وإنما الذي يعطي من صدقات هو الذي يربو عند الله –عز وجل- كما ذكرت أنواعا من النعم التي أنعم الله –تعالى- بها على عباده ، وأمرتهم بشكره –سبحانه- عليها ، لكي يزيدهم من فضله .
هذه أهم المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة ، وهناك مقاصد أخرى يراها من يتدبر هذه السورة الكريمة ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
سورة الروم من السور التى افتتحت بعض حروف التهجى ، وقد ذكرنا فى أكثر من سورة آراء العلماء فى هذه الحروف ، ورجحنا أن هذه الحروف قد ذكرها - سبحانه - فى افتتاح بعض السور القرآنية ، للتنبيه إلى أن هذا القرآن من عند الله ، لأن الله - تعالى - قد أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بمثل الحروف التى ينطق بها المشركون ، ومع ذلك فهم أعجز من أن يأتوا بسورة من مثله .
نزلت الآيات الأولى من هذه السورة بمناسبة معينة . ذلك حين غلبت فارس على الروم فيما كانت تضع يدها من جزيرة العرب . وكان ذلك في إبان احتدام الجدل حول العقيدة بين المسلمين السابقين إلى الإسلام في مكة قبل الهجرة والمشركين . . ولما كان الروم في ذلك الوقت أهل كتاب دينهم النصرانية ، وكان الفرس غير موحدين ديانتهم المجوسية ، فقد وجد المشركون من أهل مكة في الحادث فرصة لاستعلاء عقيدة الشرك على عقيدة التوحيد ، وفألا بانتصار ملة الكفر على ملة الإيمان .
ومن ثم نزلت الآيات الأولى من هذه السورة تبشر بغلبة أهل الكتاب من الروم في بضع سنين غلبة يفرحلها المؤمنون ، الذين يودون انتصار ملة الإيمان من كل دين .
ولكن القرآن لم يقف بالمسلمين وخصومهم عند هذا الوعد ، ولا في حدود ذلك الحادث . إنما كانت هذه مناسبة لينطلق بهم إلى آفاق أبعد وآماد أوسع من ذلك الحادث الموقوت . وليصلهم بالكون كله ، وليربط بين سنة الله في نصر العقيدة السماوية والحق الكبير الذي قامت عليه السماوات والأرض وما بينهما . وليصل بين ماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها . ثم يستطرد بها إلى الحياة الأخرى بعد هذه الحياة الدنيا ، وإلى العالم الآخر بعد عالم الأرض المحدود . ثم يطوف بهم في مشاهد الكون ، وفي أغوار النفس ، وفي أحوال البشر ، وفي عجائب الفطر . . فإذا هم في ذلك المحيط الهائل الضخم الرحيب يطلعون على آفاق من المعرفة ترفع حياتهم وتطلقها ، وتوسع آمادها وأهدافها ، وتخرجهم من تلك العزلة الضيقة . عزلة المكان والزمان والحادث . إلى فسحة الكون كله : ماضيه وحاضره ومستقبله ، وإلى نواميس الكون وسننه وروابطه .
ومن ثم يرتفع تصورهم لحقيقة الارتباطات وحقيقة العلاقات في هذا الكون الكبير . ويشعرون بضخامة النواميس التي تحكم هذا الكون ، وتحكم فطرة البشر ؛ ودقة السنن التي تصرف حياة الناس وأحداث الحياة ، وتحدد مواضع النصر ومواضع الهزيمة ؛ وعدالة الموازين التي تقدر بها أعمال الخلق ، ويقوم بها نشاطهم في هذه الأرض ، ويلقون على أساسها الجزاء في الدنيا والآخرة .
وفي ظل ذلك التصور المرتفع الواسع الشامل تتكشف عالمية هذه الدعوة وارتباطها بأوضاع العالم كله من حولها - حتى وهي ناشئة في مكة محصورة بين شعابها وجبالها - ويتسع مجالها فلا تعود مرتبطة بهذه الأرض وحدها إنما هي مرتبطة كذلك بفطرة هذا الكون ونواميسه الكبرى ، وفطرة النفس البشرية وأطوارها ، وماضي هذه البشرية ومستقبلها . لا على هذه الأرض وحدها ، ولكن كذلك في العالم الآخر الوثيق الصلة بها والارتباط .
وكذلك يرتبط قلب المسلم بتلك الآفاق والآماد ؛ ويتكيف على ضوئها شعوره وتصوره للحياة والقيم ؛ ويتطلع إلى السماء والآخرة ؛ ويتلفت حواليه على العجائب والأسرار ، وخلفه وقدامه على الحوادث والمصائر . ويدرك موقفه هو وموقف أمته في ذلك الخضم الهائل ؛ ويعرف قيمته هو وقيمة عقيدته في حساب الناس وحساب الله ، فيؤدي حينئذ دوره على بصيرة ، وينهض بتكاليفه في ثقة وطمأنينة واهتمام .
ويمضي سياق السورة في عرض تلك الارتباطات ، وتحقيق دلالاتها في نظام الكون ، وتثبيت مدلولاتها في القلوب . . يمضي سياق السورة في شوطين مترابطين :
في الشوط الأول يربط بين نصر المؤمنين والحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما ، ويرتبط به أمر الدنيا والآخرة . ويوجه قلوبهم إلى سنة الله فيمن مضى قبلهم من القرون . ويقيس عليها قضية البعث والإعادة . ومن ثم يعرض عليهم مشهدا من مشاهد القيامة وما يجري فيه للمؤمنين والكافرين . ثم يعود من هذه الجولة إلى مشاهد الكون ، وآيات الله المبثوثة في ثناياه ؛ ودلالة تلك المشاهد وإيحائها للقلوب . ويضرب لهم من أنفسهم ومما ملكت أيمانهم مثلا يكشف عن سخافة فكرة الشرك ، وقيامها على الأهواء التي لا تستند إلى حق أو علم . . وينهي هذا الشوط بتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى اتباع طريق الحق الواحد الثابت الواضح . طريق الفطرة التي فطر الناس عليها ؛ والتي لا تتبدل ولا تدور مع الهوى ؛ ولا يتفرق متبعوها فرقا وشيعا ، كما تفرق الذين اتبعوا الهوى .
وفي الشوط الثاني يكشف عما في طبيعة الناس من تقلب لا يصلح أن تقام عليه الحياة . ما لم يرتبطوا بمعيار ثابت لا يدور مع الأهواء ، ويصور حالهم في الرحمة والضر ، وعند بسط الرزق وقبضه . ويستطرد بهذه المناسبة إلى وسائل إنفاق هذا الرزق وتنميته . ويعود إلى قضية الشرك والشركاء فيعرضها من هذه الزاوية ؛ فإذا هم لا يرزقون ولا يميتون ولا يحيون . ويربط بين ظهور الفساد في البر والبحر وعمل الناس وكسبهم ؛ ويوجههم إلى السير في الأرض ، والنظر في عواقب المشركين من قبل . ومن ثم يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الاستقامة على دين الفطرة ، من قبل أن يأتي اليوم الذي يجزى فيه كل بما كسبت يداه . ويعود بهم بعد ذلك إلى آيات الله في مشاهد الكون كما عاد بهم في الشوط الأول . ويعقب عليها بأن الهدى هدى الله ؛ وأن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لا يملك إلا البلاغ ، فهو لا يهدي العمي ولا يسمع الصم . ثم يطوف بهم في جولة جديدة في ذات أنفسهم ويذكرهم بأطوار نشأتهم من بدئها إلى منتهاها ، منذ الطفولة الواهنة الضعيفة إلى الموت والبعث والقيامة ، ويعرض عليهم مشهدا من مشاهدها . ثم ينهي هذا الشوط ويختم معه السورة بتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الصبر على دعوته ، وما يلقاه من الناس فيها ؛ والاطمئنان إلى أن وعد الله حق لا بد آت ؛ فلا يقلقه ولا يستخفه الذين لا يوقنون .
وجو السورة وسياقها معا يتعاونان في تصوير موضوعها الرئيسي . و هو الكشف عن الارتباطات الوثيقة بين أحوال الناس ، وأحداث الحياة ، وماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها ، وسنن الكون ونواميس الوجود . وفي ظلال هذه الارتباطات يبدو أن كل حركة وكل نأمة ، وكل حادث وكل حالة ، وكل نشأة وكل عاقبة ، وكل نصر وكل هزيمة . . كلها مرتبطة برباط وثيق ، محكومة بقانون دقيق . وأن مرد الأمر فيها كله لله : ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) . وهذه هي الحقيقة الأولى التي يؤكدها القرآن كله ، بوصفها الحقيقة الموجهة في هذه العقيدة . الحقيقة التي تنشأ عنها جميع التصورات والمشاعر والقيم والتقديرات ؛ والتي بدونها لا يستقيم تصور ولا تقدير . .
والآن نأخذ في عرض السورة بالتفصيل :
ألم . غلبت الروم في أدنى الأرض ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون . في بضع سنين . لله الأمر من قبل ومن بعد . ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ، ينصر من يشاء ، وهو العزيز الرحيم . وعد الله ، لا يخلف الله وعده . ولكن أكثر الناس لا يعلمون . يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وهم عن الآخرة هم غافلون . .
بدأت السورة بالأحرف المقطعة : ألف . لام . ميم التي اخترنا في تفسيرها أنها للتنبيه إلى أن هذا القرآن - ومنه هذه السورة - مصوغ من مثل هذه الأحرف ، التي يعرفها العرب ؛ وهو مع هذا معجز لهم ، لا يملكون صياغة مثله ، والأحرف بين أيديهم ، ومنها لغتهم .
[ نزلت ]{[1]} هذه الآيات حين غلب {[2]} سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم ، واضطر هرقل مَلك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية ، وحاصره فيها مدة طويلة ، ثم عادت الدولة لهرقل ، كما سيأتي .
قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا أبو إسحاق ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس{[3]} ، رضي الله عنهما ، في قوله تعالى : { الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأرْضِ } قال : غُلبت وغَلَبت . قال : كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ؛ لأنهم أصحاب أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر{[4]} الروم على فارس ؛ لأنهم أهل كتاب ، فذُكر{[5]} ذلك لأبي بكر ، ، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أما إنهم سيغلبون » فذكره أبو بكر لهم ، فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا . فجعل أجلا خمس{[6]} سنين ، فلم يظهروا ، فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ألا جعلتها إلى دُون " أراه قال : " العشر " . " قال سعيد بن جبير : البضع ما دون العشر . ثم ظهرت الروم بعد ، قال : فذلك قوله : { الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } .
هكذا رواه{[7]} الترمذي والنسائي جميعا ، عن الحسين{[8]} بن حُرَيْث ، عن معاوية بن عمرو ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن سفيان بن سعيد الثوري {[9]} به ، وقال الترمذي : حسن غريب ، إنما نعرفه من حديث سفيان ، عن حبيب .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن محمد بن إسحاق الصاغاني{[10]} ، عن معاوية بن عمرو ، به . ورواه ابن جرير :
حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن سعيد - أو سعيد{[11]} الثعلبي الذي يقال له : أبو سعد من أهل طرسوس - حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، فذكره . وعندهم : قال سفيان : فبلغني أنهم غلبوا يوم بدر{[12]} .
حديث آخر : قال سليمان بن مِهْران الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال : قال عبد الله : خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم . أخرجاه{[13]} {[14]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا المحاربي ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر - هو الشعبي - عن عبد الله - هو{[15]} ابن مسعود رضي الله عنه - قال : كان فارس ظاهرًا على الروم ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم . وك ان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ؛ لأنهم أهل كتاب وهم أقرب إلى دينهم ، فلما نزلت : { الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ } قالوا : يا أبا بكر ، إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين ؟ ! قال : صدق . قالوا : هل لك إلى أن نقامرك ، فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين ، فمضت السبع ولم يكن شيء ، ففرح المشركون بذلك وشق على المسلمين ، فذُكِر{[16]} ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما بضع سنين عندكم " ؟ قالوا : دون العشر . قال : " اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل " . قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بذلك ، وأنزل الله : { الم . غُلِبَتِ الرُّومُ } إلى قوله : { [ وَعْدَ اللَّهِ ] لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ }{[17]} {[18]} .
حديث آخر : قال{[19]} ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عمر الوَكِيعي ، حدثنا مُؤَمَّل ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : لما نزلت : { الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } ، قال المشركون لأبي بكر : ألا ترى إلى ما يقول صاحبك ؟ يزعم أن الروم تغلب فارس . قال : صدق صاحبي . قالوا : هل لك أن نخاطرك ؟ فجعل بينه وبينهم أجلا فحل الأجل قبل أن تغلب الرومُ فارسَ ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فساءه ذلك وكرهه ، وقال لأبي بكر : " ما دعاك إلى هذا ؟ " قال : تصديقًا لله ولرسوله . فقال : " تَعَرَّض لهم وأعظم الخَطَر واجعله إلى بضع سنين " . فأتاهم أبو بكر فقال لهم : هل لكم في العود ، فإن العود أحمد ؟ قالوا : نعم . [ قال ]{[20]} فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارسَ ، وربطوا خيولهم بالمدائن ، وبنوا الرومية ، فجاء به أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هذا السحت ، قال : " تصدق به " {[21]} .
حديث آخر : قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، أخبرني ابن أبي الزِّنَاد ، عن عروة بن الزبير{[22]} عن نيَار بن مُكرَم الأسلمي قال : لما نزلت ، { الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } ، فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم ، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم ؛ لأنهم وإياهم أهل كتاب ، وفي ذلك قول الله : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } ، وكانت قريش تحب ظهور فارس ؛ لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث ، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة : { الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } ، قال{[23]} ناس من قريش لأبي بكر : فذاك بيننا وبينك{[24]} . زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك ؟ قال : بلى - وذلك قبل تحريم الرهان - فارتهن أبو بكر والمشركون ، وتواضَعُوا الرهان ، وقالوا لأبي بكر : كم تجعل البضع : ثلاث سنين إلى تسع سنين ، فَسمِّ بيننا وبينك وَسَطًا ننتهي إليه . قال : فسموا بينهم ست سنين . قال : فمضت ست السنين قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر ، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس ، فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين ، قال : لأن الله قال : { فِي بِضْعِ سِنِينَ } . قال : فأسلم عند ذلك ناس كثير{[25]} .
هكذا ساقه الترمذي ، ثم قال : هذا {[26]} حديث حسن صحيح ، لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد . وقد روي نحو هذا مرسلا عن جماعة من التابعين ، مثل عِكْرِمة ، والشعبي ، ومجاهد ، وقتادة ، والسُّدِّي ، والزهري ، وغيرهم .
ومن أغرب هذه السياقات ما رواه الإمام سُنَيد بن داود في تفسيره حيث قال : حدثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن عكرمة قال : كانت في فارس امرأة لا تلد إلا الملوك الأبطال ، فدعاها كسرى فقال : إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشًا وأستعمل عليهم رجلا من بنيك ، فأشيري عَليَّ ، أيَّهم أستعمل ؟ فقالت : هذا فلان ، وهو أروغ من ثعلب ، وأحذر من صقر . وهذا فرخان ، وهو أنفذ من سنان . وهذا شهريراز{[27]} ، وهو أحلم من كذا - تعني أولادها الثلاثة - فاستعمل أيهم شئت . قال : فإني قد استعملت الحليم . فاستعمل شهريراز{[28]} ، فسار إلى الروم بأهل فارس ، فظهر عليهم فقتلهم ، وخرّب مدائنهم ، وقطع زيتونهم .
قال أبو بكر بن عبد الله : فحدثت بهذا الحديث عطاء الخراساني فقال : أما رأيت بلاد الشام ؟ قلت : لا قال : أما إنك لو رأيتها{[29]} لرأيت المدائن التي خربت ، والزيتون الذي قطع . فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته{[30]} .
قال عطاء الخراساني : حدثني يحيى بن يَعْمَر : أن قيصر بعث رجلا يدعى قطمة بجيش من الروم ، وبعث كسرى شهريراز{[31]} ، فالتقيا بأذرعات وبُصرى ، وهي أدنى الشام إليكم ، فلقيت فارس الروم ، فغلبتهم فارس . ففرحت بذلك كفار قريش وكرهه المسلمون .
قال عكرمة : ولقي المشركون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إنكم أهل كتاب ، والنصارى أهل كتاب [ ونحن أميون ، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب ] {[32]} ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرَنّ عليكم ، فأنزل الله : { الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ } ، فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال : أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا ، فلا تفرحوا ، ولا يُقرَّن الله أعينكم ، فوالله ليظهرن الله الروم على فارس ، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم . فقام إليه أبيّ بن خَلَف فقال : كذبت يا أبا فضيل . فقال له أبو بكر : أنت أكذب يا عدو الله . فقال : أناحبُكَ عشر قلائص مني وعشر قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غَرِمتُ ، وإن ظهرت فارس غرمتَ إلى ثلاث سنين . ثم جاء{[33]} أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : " ما هكذا ذكرت ، إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، فزايدْه في الخَطَر ومادّهْ في الأجل " ، فخرج أبو بكر فلقي أبيّا فقال : لعلك ندمت ؟ فقال : لا تعال أزايدك في الخَطَر وأمادُّك في الأجل ، فاجعلها مائة قلوص لمائة قلوص إلى تسع سنين . قال : قد فعلت ، فظهرت الروم على فارس قبل ذلك ، فغلبهم المسلمون .
قال عكرمة : لما أن ظهرت فارس على الروم ، جلس فرخان يشرب وهو أخو شهريراز{[34]} فقال لأصحابه : لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى . فبلغت كسرى فكتب إلى شهريراز{[35]} {[36]} إذا أتاك كتابي [ هذا ] {[37]} فابعث إليَّ برأس فرخان . فكتب إليه : أيها الملك ، إنك لن تجد مثل فرخان ، له نكاية وصوت في العدو ، فلا تفعل . فكتب إليه : إن في رجال فارس خلفًا منه ، فعجّل إليَّ برأسه . فراجعه ، فغضب كسرى فلم يجبه ، وبعث بريدا إلى أهل فارس : إني قد نزعت عنكم شهريراز ، واستعملت عليكم فرخان . ثم دفع إلى البريد صحيفة لطيفة صغيرة فقال : إذا ولي فرخان الملك ، وانقاد له أخوه ، فأعطه هذه . فلما قرأ شهريراز الكتاب قال : سمعا وطاعة ، ونزل عن سريره ، وجلس فرخان ، ودفع إليه الصحيفة ، قال{[38]} ائتوني بشهريراز{[39]} وقَدَّمَه ليضرب عنقه ، قال : لا تعجل [ عليَّ ]{[40]} حتى أكتب وصيتي ، قال : نعم . فدعا بالسَّفط فأعطاه الصحائف{[41]} وقال : كل هذا راجعتُ فيك كسرى ، وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد . فرد الملك إلى أخيه شهريراز{[42]} وكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم : إن لي إليك حاجة لا تحملها البُرُد ولا تحملها الصّحف ، فالقني ، ولا تلقني إلا في خمسين روميا ، فإني ألقاك في خمسين فارسيا . فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق ، وخاف أن يكون قد مكر به ، حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلا . ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما ، مع كل واحد منهما سكين ، فدعيا {[43]} ترجمانا بينهما ، فقال شهريراز{[44]} إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا ، وإن كسرى حَسَدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت ، ثم أمر أخي أن يقتلني . وقد خلعناه جميعا ، فنحن نقاتله معك . قال : قد أصبتما . ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا . قال : أجل . فقتلا الترجمان جميعا بسكينيهما . [ قال ]{[45]} فأهلك الله كسرى ، وجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، ففرح والمسلمون معه . فهذا سياق غريب ، وبناء عجيب .
ولنتكلم على كلمات هذه الآيات الكريمة ، فقوله تعالى : { الم . غُلِبَتِ الرُّومُ } قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور ، في أول سورة " البقرة " .
هذه السورة تسمى سورة الروم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما في حديث الترمذي عن ابن عباس ونيار بن مكرم الأسلمي ، وسيأتي قريبا في تفسير الآية الأولى من السورة . ووجه ذلك أنه ورد فيها ذكر اسم الروم ولم يرد في غيرها من القرآن .
وهي مكية كلها بالاتفاق ، حكاه ابن عطية والقرطبي ، ولم يذكرها صاحب الإتقان في السور المختلف في مكيتها ولا في بعض آيها . وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري : أن هذه السورة نزلت يوم بدر فتكون عنده مدنية . قال أبو سعيد : لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين وفرحوا بذلك فنزلت { الم غلبت الروم } إلى قوله { بنصر الله } وكان يقرؤها { غلبت } بفتح اللام ، وهذا قول لم يتابعه أحد ، وأنه قرأ { وهم من بعد غلبهم سيغلبون } بالبناء للنائب ، ونسب مثل هذه القراءة إلى علي وابن عباس وابن عمر . وتأولها أبو السعود في تفسيره آخذا من الكشاف بأنها إشارة إلى غلب المسلمين على الروم . قال أبو السعود : وغلبهم المسلمون في غزوة مؤتة سنة تسع .
وعن ابن عباس كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان . وعن الحسن البصري أن قوله تعالى { فسبحان الله حين تمسون } الآية مدنية بناء على أن تلك الآية تشير إلى الصلوات الخمس وهو يرى أن الصلوات الخمس فرضت بالمدينة وأن الذي كان فرضا قبل الهجرة هو ركعتان في أي وقت تيسر للمسلم . وهذا مبني على شذوذ .
وهي السورة الرابعة والثمانون في تعداد نزول السور ، نزلت بعد سورة الانشقاق وقبل سورة العنكبوت . وقد روي عن قتادة وغيره أن غلب الروم على الفرس كان في عام بيعة الرضوان ، ولذلك استفاضت الروايات وكان بعد قتل أبي بن خلف يوم أحد .
واتفقت الروايات على أن غلب الروم للفرس وقع بعد مضي سبع سنين من غلب الفرس على الروم الذي نزلت عنده هذه السورة . ومن قال : إن ذلك كان بعد تسع سنين بتقديم التاء المثناة فقد حمل على التصحيف كما رواه القرطبي عن القشيري يقتضي أن نزول سورة الروم كان في إحدى عشرة قبل الهجرة لأن بيعة الرضوان كانت في سنة ست بعد الهجرة . وعن أبي سعيد الخذري أن انتصار الروم على فارس يوافق يومه يوم بدر .
وعدد آيها في عد أهل المدينة وأهل مكة تسع وخمسون . وفي عدد أهل الشام والبصرة والكوفة ستون .
وسبب نزولها ما رواه الترمذي عن ابن عباس والواحدي وغير واحد : أنه لما تحارب الفرس والروم الحرب التي سنذكرها عند قوله تعالى { غلبت الروم في أدنى الأرض } وتغلب الفرس على الروم كان المشركون من أهل مكة فرحين بغلب الفرس على الروم لأن الفرس كانوا مشركين ولم يكونوا أهل كتاب فكان حالهم أقرب إلى حال قريش ولأن عرب الحجاز والعراق كانوا من أنصار الفرس وكان عرب الشام من أنصار الروم فأظهرت قريش التطاول على المسلمين بذلك فأنزل الله هذه السورة مقتا لهم وإبطالا لتطاولهم بأن الله سينصر الروم على الفرس بعد سنين . فلذلك لما نزلت الآيات الأولى من هذه السورة خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة { ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين } ، وراهن أبو بكر المشركين على ذلك كما سيأتي .
أول أغراض هذه السورة سبب نزولها على ما سر المشركين من تغلب الفرس على الروم ، فقمع الله تعالى تطاول المشركين به وتحداهم بأن العاقبة للروم في الغلب على الفرس بعد سنين قليلة .
ثم تطرق من ذلك إلى تجهيل المشركين بأنهم لا تغوص أفهامهم في الاعتبار بالأحداث ولا في أسباب نهوض وانحدار الأمم من الجانب الرباني ، ومن ذلك إهمالهم النظر في الحياة الثانية ولم يتعظوا بهلاك الأمم السالفة المماثلة لهم في الإشراك بالله ، وانتقل من ذلك إلى ذكر البعث .
واستدل لذلك ولوحدانيته تعالى بدلائل من آيات الله في تكوين نظام العالم ونظام حياة الإنسان .
ثم حض النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين على التمسك بهذا الدين وأثنى عليه .
ونظر بين الفضائل التي يدعو إليها الإسلام وبين حال المشركين ورذائلهم ، وضرب أمثالا لإحياء مختلف الأموات بعد زوال الحياة عنها ولإحياء الأمم بعد يأس الناس منها ، وأمثالا لحدوث القوة بعد الضعف وبعكس ذلك .
وختم ذلك بالعود إلى إثبات البعث ثم بتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم ووعده بالنصر .
ومن أعظم ما اشتملت عليه التصريح بأن الإسلام دين فطر الله الناس عليه وأن من ابتغى غيره دينا فقد حاول تبديل ما خلق الله وأنى له ذلك .
تقدم القول على نظيره في سور كثيرة وخاصة في سورة العنكبوت ، وأن هذه السورة إحدى ثلاث سور مما افتتح بحروف التهجي المقطعة غير معقبة بما يشير إلى القرآن ، وتقدم في أول سورة مريم .