تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الروم كلها( {[1]} ) مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

الآية 1و2و3 قوله تعالى : { الم } { غُلِبت الروم } { في أدنى الأرض } وفي بعض القراءات : غَلَبت الروم بفتح الغين( {[15888]} ) على المستقبل .

يذكر أهل التأويل أنه إنما يذكر هذا لأن المشركين كانوا يجادلون المسلمين ، وهم بمكة ؛ يقولون : إن الروم أهل الكتاب ، وقد غلبتهم المجوس ، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبون بالكتاب الذي أنزل على نبيكم ، فستغلبكم كما غلبت فارس الروم .

فأنزل الله هذه الآيات( {[15889]} ) : { الم } { غلبت الروم } { في أدنى الأرض } الآية . لكن يذكر في آخره { ويومئذ يفرح المؤمنون } { بنصر الله ينصر من يشاء } فلا يحتمل فرح المؤمنين بغلبة الروم على فارس ، ويسمى ذلك نصرا لله ، وهم كفار ، وغلبتهم عليهم معصية . اللهم إلا أن يكون فرحهم بما يظهر الإيمان بكتب الله وتصديقها والعمل بها ، وهم كانوا أهل كتب ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث مصدِّقا بكتب الله وبرسله أجمعين( {[15890]} ) ففرحوا بذلك .

فإن كان كذلك فجائز الفرح بذلك وتسميته نصر الله . وأما على الوجه الذي يقولون هم فلا . وعندهم أن في ذلك آية عظيمة في إثبات رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وصدقه ما لم يجد الكفار فيه مطعنا [ وما يمكّنهم نسبته ] ( {[15891]} ) إلى الكذب والافتراء على ما قالوا ، وطعنوا في سائر الآيات والأنباء كقولهم( {[15892]} ) { إنما يعلمه بشر } [ النحل : 104 ] ونحو ذلك من المطاعن التي طعنوا في القرآن والأنباء المتقدمة حين( {[15893]} ) قالوا : { إن هذا إلا أساطير الأولين } [ الأنعام : 25و . . ] { وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى } [ سبأ : 43 ] .

فمثلها لم يجدوا في ما أخبر من غلبة الروم على فارس لأنه أخبر عن غلبة ستكون ، وستحدث ، لا عن غلبة قد كانت . ومثل هذا لا يدركه البشر ، ولا يستفاد منه( {[15894]} ) إذ لا يبلغه علم البشر ، ولا يدرك بالقياس السابق من الأمور .

فإذا كان على ما أخبر دل أنه بالله أُعْلِم ذلك ، وبوحي منه إليه ، فعرف ذلك .

وهم : جائز أن يستدلوا بما كان من قبل من غلبة فارس على الروم أن يقولوا : تغلب فارس على الروم بما شاهدوه مرة أو بوجوه( {[15895]} ) أخر ، يستدلون بذلك : من نحو أن يقولوا : إنهم أهل كتاب وعبادة ، يكونون مشاغيل بالنظر فيها والعمل ببعض ما فيها ، لا يتفرغون للقتال والحرب ، أو أن يقولوا : إنهم نصارى ؛ أعني أهل الروم ، وليس في سنتهم ومذهبهم القتال والحرب ، فيستدلون بمثل هذه الوجوه على أن لا غلبة تكون لهم ، ولا ظفر .

وأما أهل الإسلام ، فليس لهم شيء من تلك الوجوه ، ولا بغيرها وجه الاستدلال بغلبة أولئك ، فما قالوا ذلك إلا وحيا من الله وإعلاما منه إياه . فكان في ذلك أعظم آية في صدق رسوله وأكبرها .

فيكون فرح المؤمنين وذكر نصر الله بإظهار تلك الآية في تصديق رسوله إذ نصر رسوله حيث أظهر صدقه ورسالته .

وقوله { غلبت } ، على الماضي لما كان من غلبة فارس على الروم . وغَلَبت بالفتح على المستقبل ، أي تَغْلِبُ الروم على فارس ، وهو كقوله : { فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا } [ سبأ : 19 ] على الأمر في المستقبل ، و : ربنا( {[15896]} ) باعد بين أسفارنا على الخبر . فعلى ذلك الأول .

وقوله تعالى : { في أدنى الأرض } قيل : أقرب إلى أرض فارس . وقال بعضهم : { في أدنى الأرض } أي أدنى أرض/409-ب/ الشام . وقيل : الأرض التي تلي فارس ، والله أعلم .

وفي قوله( {[15897]} ) : { وهم من بعد غلبهم سيغلبون } وفي قوله : { ويومئذ يفرح المؤمنون } { وبنصر الله } [ الروم : 4 و5 ] وجوه على المعتزلة :

أحدهما : يقال لهم : وعد أن يغلب الروم فارس ، وقد أراد أن يخرج ما وعد حقا ، صدقا أم لا ؟

فإن قالوا : لا فقد أعظموا القول ، وأفحشوا حين( {[15898]} ) زعموا أنه أراد ألا يفي بما وعد أن يكون .

وإن قالوا : نعم قيل : دل أنه أراد ما فعلوا ، وإن كان الفعل منهم فعل معصية وخلاف ، إذ محاربة كل فريق أصحابهم معصية ، إذ لم يؤمروا بذلك ، وإنما أمروا بالإسلام . فدل أن الله مريد لما يعلم أنه يكون منهم ، وإن كان ما يكون منهم معصية .

والثاني : ما أخبر بفرح المؤمنين بغلبة هؤلاء على أولئك على أي جهة كان فرحهم لإثبات آية عظيمة على رسالة نبيهم ونبوته على ما ذكرنا ، أو لأنهم كانوا أهل كتب الله ودراستها أحبوا غلبتهم عليهم ، وفرحوا بذلك ، ولا يحتمل أن يفرحوا بذلك ، ولم يأمرهم بذلك ، ولا أراد منهم ذلك .

دل أنهم فرحوا بذلك لما أراد ذلك .

والثالث : في قوله : { بنصر الله ينصر من يشاء } دلالة أن الله في فعل العباد صنعا وتدبيرا حين( {[15899]} ) ذكر فعل بعضهم على بعض ، ثم سمى نصر الله . دل أن له بذلك تدبيرا .


[1]:- في ط ع: سمح.
[15888]:انظر معجم القراءات القرآنية ج 5/63.
[15889]:في الأصل وم: الآية.
[15890]:في الأصل وم: أجمع.
[15891]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: ولا النسبة.
[15892]:في الأصل وم: وقولهم.
[15893]:في الأصل وم: حيث.
[15894]:في الأصل وم: منهم.
[15895]:من م، في الأصل: بوجوب.
[15896]:انظر معجم القراءات القرآنية ح 5/155.
[15897]:في الأصل وم: قولهم.
[15898]:في الأصل وم: حيث.
[15899]:في الأصل وم: أحيث.