قوله تعالى : { هذا عطاؤنا } يعني : قلنا له { هذا عطاؤنا } ، { فامنن أو أمسك } المن : هو الإحسان إلى من تشاؤم ومن لا تشاؤم ، معناه : أعط من شئت وأمسك عمن شئت ، { بغير حساب } لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما أمسكت . قال الحسن : ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه تبعة ، إلا سليمان فإنه إن أعطي أجرا ، وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة . وقال مقاتل : هذا في أمر الشياطين ، يعني :خل من شئت منهم ، وأمسك من شئت في وثاقك ، لا تبعة عليك فيما تتعاطاه . { وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب }
قوله : { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا فأعط من شئت واحرم من شئت ، لا حساب عليك ، أي : مهما فعلتَ فهو جائز لك احكم بما شئت فهو صواب . وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خُيِّر بين أن يكون عبدًا رسولا - وهو الذي يفعل ما يؤمر به وإنما هو قاسم يقسم بين الناس ما أمره الله به - وبين أن يكون ملكا نبيا يعطي من يشاء ويمنع من يشاء بلا حساب ولا جناح ، اختار المنزلة الأولى بعد ما استشار جبريل فقال له : تواضع فاختار المنزلة الأولى لأنها أرفع قدرا عند الله وأعلى منزلة في المعاد وإن كانت المنزلة الثانية وهي النبوة مع الملك عظيمة أيضا في الدنيا والآخرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هذا عطاؤنا فامنن} على من شئت من الشياطين، فحل عنه.
{أو أمسك} وأحبس في العمل والوثاق من شئت منهم.
{بغير حساب} بلا تبعة عليك في الآخرة، فيمن تمن عليه فترسله، وفيمن تحبسه في العمل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"هَذَا عَطاؤُنا فامْنُنْ أوْ أمْسِكْ بِغَيْرٍ حِسابٍ": اختلف أهل التأويل في المشار إليه بقوله: هَذَا من العطاء، وأيّ عطاء أريد بقوله: "عَطاؤنا"؛ فقال بعضهم: عُني به الملك الذي أعطاه الله... قال: قال الحسن: الملك الذي أعطيناك؛ فأعط ما شئت وامنع ما شئت...
وقال آخرون: بل عُني بذلك تسخيره له الشياطين، وقالوا: ومعنى الكلام: هذا الذي أعطيناك من كلّ بناء وغوّاص من الشياطين، وغيرهم عطاؤنا... عن قتادة: "هَذَا عَطاؤُنا فامْنُنْ أوْ أَمْسِكْ بغَيرٍ حِسابٍ "قال: هؤلاء الشياطين احبس من شئت منهم في وثاقك وفي عذابك أو سرّح من شئت منهم تتخذ عنده يدا، اصنع ما شئت...
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب... أنه عُني بالعطاء ما أعطاه من الملك تعالى ذكره، وذلك أنه جلّ ثناؤه ذكر ذلك عُقَيب خبره عن مسألة نبيه سليمان صلوات الله وسلامه عليه إياه مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده، فأخبر أنه سخر له ما لم يُسَخّر لأحد من بني آدم، وذلك تسخيره له الريح والشياطين على ما وصفت، ثم قال له عزّ ذكره: هذا الذي أعطيناك من المُلك، وتسخيرنا ما سخرنا لك عطاؤنا، ووهبنا لك ما سألْتنا أن نهبه لك من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعدك فامْنُنْ أو أَمْسِكْ بغَيْرِ حِسابٍ.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فامْنُنْ أوْ أَمْسِكْ بغَيْرِ حِسابٍ)؛ فقال بعضهم: عَنَى ذلك: فأعط من شئت ما شئت من المُلك الذي آتيناك، وامنع من شئت منه ما شئت، لا حساب عليك في ذلك...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أَعْتِق من هؤلاء الشياطين الذين سخرناهم لك من الخدمة، أو من الوَثاق ممن كان منهم مُقَرّنا في الأصفاد مَن شئت واحبس مَنْ شئت فلا حرج عليك في ذلك...
وقال آخرون: بل ذلك من المقدّم والمؤخر. ومعنى الكلام: هذا عطاؤنا بغير حساب، فامُننْ أو أمسك...
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين يقول في قوله: بغَيرِ حِسابٍ وجهان أحدهما: بغير جزاء ولا ثواب، والآخر: مِنّةٍ ولا قِلّةٍ.
والصواب من القول في ذلك ما ذكرته عن أهل التأويل من أن معناه: لا يحاسب على ما أعطى من ذلك المُلك والسلطان. وإنما قلنا ذلك هو الصواب لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{هذا} الذي أعطيناك من الملك والمال والبسطة.
{عَطَاؤُنَا} بغير حساب: جماً كثيراً لا يكاد يقدر على حسبه وحصره.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ذلك ملكاً عظيماً، نبه على عظمته بكثرته ودوامه وعظمة مؤتيه فقال مستأنفاً بتقدير: قلنا له ونحوه: {هذا} أي الأمر الكبير.
{عطاؤنا} أي على ما لنا من العظمة؛ ثم سبب عن ذلك إطلاق التصرف الذي هو أعظم المقاصد، فكم من مالك لشيء وهو مغلول اليد عن التصرف فيه، فقال بادئاً بما يوجب الحب ويقبل بالقلوب دالاً على عظمته وظهور أمره بفك الإدغام:
{فامنن} أي أعط من شئت عطاء مبتدئاً من غير تسبب من المعطي.
ولما كان هذا عطاء يفوت الوصف عظمه، زاده تعظيماً بكثرته وتسهيله وسلامة العاقبة فيه فقال: {بغير} أي كائناً كل ذلك من العطاء والمن خالياً عن {حساب} لأنك لا تخشى من نقصه، وربك هو المعطي والآمر، ولا من كونه مما يسأل عنه في الآخرة؛ لأنه قد أذن لك، فنفي الحساب عنه يفيد شيئين الكثرة وعدم الدرك في إعطاء أو منع، وجعله مصدراً مزيداً يفهم أنه إنما ينفي عنه حساب يعتد به لا مطلق حسب بالتخمين كما يكون في الأشياء التي تعيي الحاصر فيقرب أمرها بنوع حدس...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الإِشارة إلى التسخير المستفاد من {فسخرنا له الريح} [ص: 36] إلى قوله:
{والشياطين} [ص: 37] أي هذا التسخير عطاؤنا. والإِضافة لتعظيم شأن المضاف لانتسابه إلى المضاف إليه فكأنه قيل: هذا عطاء عظيم أعطيناكه، والعطاء مصدر بمعنى المعطى مثل الخلق بمعنى المخلوق.
« امنن» أمر مستعمل في الإِذن والإِباحة، وهو مشتق من المنّ المكنّى به عن الإِنعام: أي فأنعم على مَن شئت بالإِطلاق، أو أمسك في الخدمة من شئت، فالمنّ: كناية عن الإِطلاق بلازم اللام، كقوله تعالى: {فإما مناً بعدُ وإما فداء} [محمد: 4]...
وجملتا {فامنن أو أمْسِك} معترضتان بين قوله: {عَطَاؤُنَا} وقوله: {بِغَيرِ حسَابٍ}، وهو تفريع مقدّم من تأخير، والتقديم لتعجيل المسرة بالنعمة، أي هذا عطاؤنا غير محدد ولا مقتَّر فيه، أي عطاؤنا واسعاً وافياً لا تضييق فيه عليك.
... {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يعني: أنت حر في أنْ تعطي أو أنْ تمسكَ وتمنع.
والحق سبحانه لم يجعل لسليمان طلاقة التصرُّف، إلا لأنه ضمن منه عدالة التصرف، لأن سليمان حين طلب الملْك الواسع تعهَّد لله تعالى بهذه العدالة...
فكأنه لم يطلب النعمة والملْك الواسع ليتنعم هو به، أو يتباهى، إنما طلبه ليسخره في خدمة الدعوة إلى الله، ولأنه سيجابه قوةً كانت أعظمَ القُوَى في هذا الوقت، ويكفي أن الله تعالى وصف هذه القوة بقوله: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] أي: بلقيس...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ذلك لصفة العدالة التي كان يتمتّع بها سليمان في مجال استخدام تلك الصلاحيات أو أنّ العطاء الإلهي لسليمان كان عظيماً بحيث أنّه مهما منح منه، فإنّه يبقى عظيماً وكثيراً، وقال بعض المفسّرين: إنّ هذه العبارة تخصّ فقط الشياطين المقرنين بالأصفاد، وتخاطب سليمان بأنّه يستطيع إطلاق سراح أي منهم (إن رأى في ذلك صلاحاً، وإبقاء من يشاء في قيوده إن رأى الصلاح في ذلك، إلاّ أنّ هذا المعنى مستبعد، لأنّه لا يتلاءم مع ظاهر كلمة (عطاؤنا)...