التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{هَٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمۡنُنۡ أَوۡ أَمۡسِكۡ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (39)

والإِشارة إلى التسخير المستفاد من { فسخرنا له الريح } [ ص : 36 ] إلى قوله : { والشياطين } [ ص : 37 ] أي هذا التسخير عطاؤنا . والإِضافة لتعظيم شأن المضاف لانتسابه إلى المضاف إليه فكأنه قيل : هذا عطاء عظيم أعطيناكه . والعطاء مصدر بمعنى المعطى مثل الخلق بمعنى المخلوق .

و« امنن » أمر مستعمل في الإِذن والإِباحة ، وهو مشتق من المنّ المكنّى به عن الإِنعام ، أي فأنعم على مَن شئت بالإِطلاق ، أو أمسك في الخدمة من شئت .

فالمنّ : كناية عن الإِطلاق بلازم اللام ، كقوله تعالى : { فإما مناً بعدُ وإما فداء } [ محمد : 4 ] .

وجملتا { فامنن أو أمْسِك } معترضتان بين قوله : { عَطَاؤُنَا } وقوله : { بِغَيرِ حسَابٍ } ، وهو تفريع مقدّم من تأخير .

والتقديم لتعجيل المسرة بالنعمة ، ونظيره قوله تعالى من بعد : { هذا فليذوقوه حميم وغساق } [ ص : 57 ] وقول عنترة :

ولقد نزلت فلا تظنِّي غيرَه *** مني بمنزلة المُحَب المكْرَم

وقول بشارة :

كقائلة إن الحمار فنحِّه *** عن القَتِّ أهلُ السمسم المتهذب

مجازاً وكناية في التحديد والتقدير ، أي هذا عطاؤنا غير محدد ولا مقتَّر فيه ، أي عطاؤنا واسعاً وافياً لا تضييق فيه عليك .

ويجوز أن يكون { بغيرِ حسابٍ } حالاً من ضمير « أمنن أو أمسك » . ويكون الحساب بمعنى المحاسبة المكنّى بها عن المُؤاخذة . والمعنى : أُمنن أو أمسك لا مؤاخذة عليك فيمن منَنْتَ عليه بالإِطلاق إن كان مفسداً ، ولا فيمن أمسكته في الخدمة إن كان صالحاً .