{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ } أي : آمركم وأوصيكم ، على ألسنة رسلي ، [ وأقول لكم : ] { يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ } أي : لا تطيعوه ؟ وهذا التوبيخ ، يدخل فيه التوبيخ عن جميع أنواع الكفر والمعاصي ، لأنها كلها طاعة للشيطان وعبادة له ، { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } فحذرتكم منه غاية التحذير ، وأنذرتكم عن طاعته ، وأخبرتكم بما يدعوكم إليه ،
وقوله - تعالى - بعد ذلك : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابني ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان } من جملة ما يقال لهم - أيضا - على سبيل التقريع والتوبيخ .
والعهد بالشئ : الوصية به ، والمراد به هنا : وصية الله - تعالى - للناس على ألسنة رسله ، أن يخلصوا له العبادة والطاعة ، وأن يخالفوا ، ما يوسوس لهم به الشيطان من شرك ومعصية .
قال الآلوسى : والمراد بالعهد هنا . ما كان منه - تعالى - على ألسنة الرسل - عليهم السلام - من الأوامر والنواهى التى من جملتها قوله - تعالى - { يابني ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة . . } وقيل : هو الميثاق المأخوذ عليهم فى عالم الذر ، إذ قال - سبحانه - { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى . . . } وقيل : هو ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادة الله - تعالى - الزاجرة عن عبادة غيره .
والمراد بعبادة الشيطان : طاعته فيما يوسوس به إليهم ، ويزينه لهم ، عبر عنها بالعبادة لزيادة التحذير والتنفير عنها .
والمعنى : لقد عهدت إليكم - يا بنى آدم - عهدا مؤكد على ألسنة رسلى ، أن لا تعبدوا الشيطان وأن لا تستمعوا لوسوسته ، وأن لا تتبعوا خطواته ، لأنه لكم عدو ظاهر العداوة ، بحيث لا تخفى عداوته على أحد من العقلاء .
فجملة { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تعليل لوجوب الانتهاء عن طاعة الشيطان .
وقوله تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } : هذا تقريع من الله للكفرة من بني آدم ، الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو لهم مبين ، وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم ؛ ولهذا قال : { وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }
وقوله : ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشّيْطانَ إنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ ، وفي الكلام متروك استغني بدلالة الكلام عليه منه ، وهو : ثم يقال : ألم أعهد إليكم يا بني آدم ، يقول : ألم أوصكم وآمركم في الدنيا أن لا تعبدوا الشيطان فتطيعوه في معصية الله إنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ يقول : وأقول لكم : إن الشيطان لكم عدوّ مبين ، قد أبان لكم عَداوته بامتناعه من السجود ، لأبيكم آدم ، حسدا منه له ، على ما كان الله أعطاه من الكرامة ، وغُروره إياه ، حتى أخرجه وزوجته من الجنة .
ثم خاطبهم تعالى لما تميزوا توقيفاً لهم وتوبيخاً على عهده إليهم ومخالفتهم عهده ، وقرأ جمهور الناس «أعهَد » بفتح الهاء ، وقرأ الهذيل وابن وثاب ، «ألمِ إعهَد » بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي على لغة من يكسر أول المضارع سوى الياء ، وروي عن ابن وثاب «ألم أعهِد » بكسر الهاء ، يقال عهد وعهد ، وعبادة الشيطان هي طاعته والانقياد لإغوائه .
إقبال على جميع البشر الذين جَمَعهم المحشر غير أهل الجنة الذين عُجلوا إلى الجنة ، فيشمل هذا جميع أهل الضلالة من مشركين وغيرهم ، ولعله شامل لأهل الأعراف ، وهو إشهاد على المشركين وتوبيخ لهم .
والاستفهام تقريري ، وخوطبوا بعنوان { بني آدم } لأن مقام التوبيخ على عبادتهم الشيطان يقتضي تذكيرهم بأنهم أبناء الذي جعله الشيطان عدوّاً له ، كقول النابغة :
لئن كان للقبرين قبرٍ بجلق *** وقبر بصيدا الذي عند حارب
وللحارث الجفني سيد قومه *** ليلتمس بالجيش دار المحارب
والعهد : الوصاية ، ووصاية الله بني آدم بألا يعبدوا الشيطان هي ما تقرر واشتهر في الأمم بما جاء به الرسل في العصور الماضية فلا يسع إنكاره . وبهذا الاعتبار صح الإِنكار عليهم في حالهم الشبيهة بحال من يجحد هذا العهد .
واعلم أن في قوله تعالى : { أعْهَدْ } توالي العين والهاء وهما حرفان متقاربا المخرج من حروف الحلق إلاّ أن تواليهما لم يحدث ثقلاً في النطق بالكلمة ينافي الفصاحة بموجب تنافر الحروف لأن انتقال النطق في مخرج العين من وسط الحلق إلى مخرج الهاء من أقصى الحلق خفف النطق بهما ، وكذلك الانتقال من سكون إلى حركة زاد ذلك خفة . ومثله قوله تعالى : { وسبحه } [ الإنسان : 26 ] المشتمل على حاء وهي من وسط الحلق وهاء وهي من أقصاه إلا أن الأولى ساكنة والثانية متحركة وهما متقاربا المخرج ، ولا يعد هذا من تنافر الحروف ، ومثل له بقول أبي تمام :
كريم متى أمْدَحْهُ أُمْدَحْهُ والورى *** معي وإذا ما لمته لمته وحدي
فإن كلمة ( أمْدَحْه ) لا تُعَدّ متنافرة الحروف على أن تكريرها أحدث عليها ثقلاً ما فلا يكون ذلك مثل قول امرىء القيس :
غدائرهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إلى العُلى{[344]}
المجعول مثالاً للتنافر فإن تنافر حروفه انجرّ إليه من تعاقب ثلاثة حروف : السين والشين والزاي ، ولولا الفصل بين السين والشين بالتاء لكان أشد تنافراً .
وموجبات التنافر كثيرة ومرجعها إلى سرعة انتقال اللسان في مخارج حروف شديدة التقارب أو التباعد مع عوارض تعرض لها من صفات الحروف من : جهر وهمس ، أو شدة ورخو ، أو استعلاء واستفال ، أو انفتاح وانطباق ، أو إصمات وانذلاق . ومن حركاتها وسكناتها وليس لذلك ضابط مطرد ولكنه مما يُرجع فيه إلى ذوق الفصحاء . وقد حاول ابن سِنان الخفاجي إرجاعه إلى تقارب مخارج الحروف فردّه ابن الأثير عليه بما لا مخلص منه .
وإذا اقتضى الحال من حقّ البلاغة إيثار كلمة بالذكر إذ لا يعدِلُها غيرها فعرض من تصاريفها عارض ثقل لا يكون حقُّ مقتضى الحال البلاغي موجباً إيرادها .
و { أنْ } تفسيرية ، فسرت إجمال العهد لأن العهد فيه معنى القول دون حروفه ف { أَنْ } الواقعة بعده تفسيرية .
وعبادة الشيطان : عبادة ما يأمر بعبادته من الأصنام ونحوها .
وجملة { لكُم عدوٌّ مُبِينٌ } تعليل لجملة { لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ } وقد أغنت { أن } عن فاء السببية كما تقدم غير مرة .
و { مُبِينٌ } اسم فاعل من أبان بمعنى بان للمبالغة ، أي عداوته واضحة ، ووجه وضوحها أن المرء إذا راقب عواقب الأعمال التي توسوسها له نفسه واتهمها وعرضها على وصايا الأنبياء والحكماء وجدها عواقب نحسة ، فوضح له أنها من الشيطان بالوسوسة وأن الذي وسوس بها عدوّ له لأنه لو كان ودوداً لما أوقعه في الكوارث ولا يظن به الإِيقاع في ذلك عن غير بصيرة لأن تكرر أمثال تلك الوساوس للمرء ولأمثاله ممن يبوح له بأحواله يدل ذلك التكرر على أنها وساوس مقصودة للإِيقاع في المهالك فعلم أن المشير بها عدوّ ألد ، ولعل هذا المعنى هو المشار إليه بقوله تعالى : { ولقد أضلَّ مِنكم جِبلاً كثِيراً أفَلَم تكُونوا تَعْقِلون } .