نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{۞أَلَمۡ أَعۡهَدۡ إِلَيۡكُمۡ يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ أَن لَّا تَعۡبُدُواْ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (60)

ولما أمرهم بالامتياز أمراً إرادياً حكمياً ، فامتازوا في الحال ، وأسروا الندامة وسقط في أيديهم فعضوا الأنامل ، وصروا بالأسنان ، وشخصت منهم الأبصار ، وكلحت الوجوه ، وتقلصت الشفاه ، ونكست الرؤوس وشحبت الألوان ، وسحبوا على الوجوه ، وكان من فنون المساءة وشؤون الحسرة ما تعجز عنه العقول ، وتذوب من ذكره النفوس ، وتنخلع القلوب ، قال سبحانه موبخاً لهم في تلك الحال بهذا المقال معللاً حكمه عليهم بذلك بأنه لم يتركهم هملاً بل ركب فيهم من العقول ونصب لهم من الدلائل على كماله ما هو كافٍ لهم في النجاة ثم ما وكلهم إلى ذلك ، بل أرسل إليهم رسلاً وأنزل عليهم كتباً : { ألم أعهد } أي أوصيكم إيصاء عظيماً بما نصبت من الأدلة ، ومنحت من العقول ، وبعثت من الرسل ، وأنزلت من الكتب ، في بيان الطريق الموصل إلى النجاة ، لافتاً القول عن مظهر الإحسان إلى ما هو أولى به من مظهر التكلم بالوحدة دفعاً للبس ، ثم أشار إلى علوه وجلاله ، وعظمه وسمو كماله فقال : { إليكم } .

ولما كان المقصود بهذا الخطاب تقريعهم وتوبيخهم وتبكيتهم ، وكانت هذه السورة القلب ، وكان القلب أشرف الأعضاء ، وكان الإنسان أشرف الموجودات ، خصه بالخطاب لأنه خطابه خطاب للجن فقال مؤكداً ما أفهمه حرف الغاية من علو رتبته ، وعظيم منزلته بما أشارت إليه أداة البعد : { يا بني آدم } أي فلم أخصكم بذلك عن أبناء غير نوعكم ليكون ذلك التخصيص حاملاً لكم على العصيان بل ليكون موجباً للطاعات والعرفان : { أن لا تعبدوا الشيطان } أي البعيد المحترق بطاعتكم له فيما يوسوس لكم به ، ثم علل النهي عن عبادته بما يقتضي شدة النفرة منه بعد أن لوّح إلى ذلك بوصفه فقال : { إنه لكم } والتأكيد لأن أفعالهم أفعال من يعتقد صداقته { عدو مبين * } أي ظاهر العداوة جداً من جهة عداوته لأبيكم العداوة التي أخرجتكم من الجنة التي لا منزل أشف منها ، ومن جهة أمره لكم بما يبغض الدنيا من التخالف والتخاصم ، ومن جهة تزيينه للفاني الذي لا يرغب فيه عاقل لو لم يكن فيه عيب غير فنائه ، فكيف إذا كان أكثره أكداراً وأدناساً وأوضاراً ، فكيف إذا كان شاغلاً عن الباقي ، فكيف إذا كان عائقاً عن المولى ، فكيف إذا كان مغضباً له حاجباً عنه .