{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } أي : بما يصدر منهم من المقالات الفاسدة ، التي يردون بها الحق{[1076]} ، وهي لا حقيقة لها ، بل تزيد البصير معرفة بما هم عليه من الباطل ، { وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } أي : قد تكفل الله بنصر دينه ، وإتمام الحق الذي أرسل به رسله ، وإشاعة{[1077]} نوره على سائر الأقطار ، ولو كره الكافرون ، وبذلوا بسبب كراهتهم كل سبب يتوصلون{[1078]} به إلى إطفاء نور الله فإنهم مغلوبون .
وصاروا بمنزلة من ينفخ عين الشمس بفيه{[1079]} ليطفئها ، فلا على مرادهم حصلوا ، ولا سلمت عقولهم من النقص والقدح فيها .
ثم بين - سبحانه - ما يهدف إليه هؤلاء الظالمون من رواء افترائهم الكذب على الدين الحق ، فقال - تعالى - : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ } .
والمراد بنور الله : دين الإسلام الذى ارتضاه - سبحانه - لعباده دينا ، وبعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقيل المراد به : حججه الدالة على وحدانيته - تعالى - وقيل المراد به : القرآن . . . وهى معان متقاربة .
والمراد بإطفاء نور الله : محاولة طمسه وإبطاله والقضاء عليه ، بكل وسيلة يستطيعها أعداؤه ، كإثارتهم للشبهات من حول تعاليمه ، وكتحريضهم لمن كان على شاكلتهم فى الضلال على محاربته .
والمراد بأفواههم : أقوالهم الباطلة الخارجة من تلك الأفواه التى تنطق بما لا وزن له من الكلام .
والمعنى : يريد هؤلاء الكافرون بالحق ، أن يقضوا على دين الإسلام ، وأن يطمسوا تعاليمه السامية التى جاء بها النبى - صلى الله عليه وسلم - عن طريق أقاويلهم الباطلة الصادرة عن أفواههم ، من غير أن يكون لها مصداق من الواقع تنبق عليه ، أو أصل تستند إليه ، وإنما هى أقوال من قبيل اللغو الساقط المهمل الذى لا وزن له ولا قيمة .
قال صاحب الكشاف : مثَّل حالهم فى طلبهم إبطال نبوة النبى - صلى الله عليه وسلم - بالتكذيب ، بحال من يريد أن ينفخ فى نور عظيم منبثق فى الآفاق يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى فى الإشراق أو الإضاءة ، ليطفئه بنفخه ويطمسه .
والجملة الكريمة فيها ما فيها من التهكم والاستهزاء بهؤلاء الكافرين ، حيث شبههم - سبحانه - فى جهالاتهم وغفلتهم ، بحال من يريد إطفاء نور الشمس الوهاج ، بنفخة من فمه الذى لا يستطيع إطفاء ما هو دون ذلك بما لا يحصى من المرات .
وقوله - تعالى - : { والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } بشارة للمؤمنين بأن ما هم عليه من حق ، لا بد أن يعم الآفاق .
أى : والله - تعالى - بقدرته التى لا يعجزها شىء ، متم نوره ، ومظهر دينه ومؤيد نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولو كره الكافرون ذلك فإن كراهيتهم لظهور دين الله - تعالى - لا أثر لها ولا قيمة .
فالآية الكريمة وعد من الله - تعالى - للمؤمنين ، بإظهار دينهم ، وإعلاء كلمتهم ، لكى يزيدهم ذلك ثباتا على ثباتهم ، وقوة على قوتهم .
( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم . والله متم نوره ولو كره الكافرون ) . .
وهذا النص القرآني يعبر عن حقيقة ، ويرسم في الوقت ذاته صورة تدعو إلى الرثاء والاستهزاء ! فهي حقيقة أنهم كانوا يقولون بأفواههم : ( هذا سحر مبين ) . . ويدسون ويكيدون محاولين القضاء على الدين الجديد . وهي صورة بائسة لهم وهم يحاولون إطفاء نور الله بنفخة من أفواههم وهم هم الضعاف المهازيل !
( والله متم نوره ولو كره الكافرون ) . . وصدق وعد الله . أتم نوره في حياة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فأقام الجماعة الإسلامية صورة حية واقعة من المنهج الإلهي المختار . صورة ذات معالم واضحة وحدود مرسومة ، تترسمها الأجيال لا نظرية في بطون الكتب ، ولكن حقيقة في عالم الواقع . وأتم نوره فأكمل للمسلمين دينهم وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام دينا يحبونه ، ويجاهدون في سبيله ، ويرضى أحدهم أن يلقى في النار ولا يعود إلى الكفر . فتمت حقيقة الدين في القلوب وفي الأرض سواء . وما تزال هذه الحقيقة تنبعث بين الحين والحين . وتنبض وتنتفض قائمة - على الرغم من كل ما جرد على الإسلام والمسلمين من حرب وكيد وتنكيل وتشريد وبطش شديد . لأن نور الله لا يمكن أن تطفئه الأفواه ، ولا أن تطمسه كذلك النار والحديد ، في أيدي العبيد ! وإن خيل للطغاة الجبارين ، وللأبطال المصنوعين على أعين الصليبيين واليهود أنهم بالغو هذا الهدف البعيد !
ثم قال : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } أي : يحاولون{[28795]} أن يَرُدّوا الحق بالباطل ، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه ، وكما أن هذا مستحيل كذلك ذاك مستحيل{[28796]} ؛
ولهذا قال : { وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } وقد تقدم الكلام على هاتين الآيتين في سورة " براءة " ، بما فيه كفاية ، ولله الحمد والمنة{[28797]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللّهُ مُتِمّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : يريد هؤلاء القائلون لمحمد صلى الله عليه وسلم : هذا ساحر مبين ، { لِيُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بأفْوَاهِهِمْ }يقول : يريدون ليبطلوا الحقّ الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم بأفواههم يعني بقولهم إنه ساحر ، وما جاء به سحر ، { وَاللّهُ مُتِمّ نُورِهِ }يقول : الله معلن الحقّ ، ومظهر دينه ، وناصر محمدا عليه الصلاة والسلام على من عاداه ، فذلك إتمام نوره ، وعنى بالنور في هذا الموضع الإسلام . وكان ابن زيد يقول : عُنِي به القرآن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { لِيُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بأفْوَاهِهِمْ } قال : نور القرآن .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله تعالى : { وَاللّهُ مُتِمّ نورِهِ }فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : «مُتِمّ نُورَهُ » بالنصب . وقرأه بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء الكوفة مُتِمّ بغير تنوين نورِه خفضا ، وهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب عندنا .
وقوله : { وَلَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ }يقول : والله مظهر دينه ، ناصر رسوله ، ولو كره الكافرون بالله .
والضمير في { يريدون } للكفار ، واللام في قوله : { ليطفئوا } لام مؤكدة ، دخلت على المفعول لأن التقدير : «يريدون أن يطفئوا » وأن مع الفعل بتأويل المصدر فكأنه قال : يريدون إطفاء ، وأكثر ما تلتزم هذه اللام المفعول إذا تقدم تقول لزيد : ضربت ولرؤيتك قصدت ، و { نور الله } هو شرعه وبراهينه .
وقوله تعالى : { بأفواههم } إشارة إلى الأقوال أي بقولهم : سحر وشعر وتكهن وغير ذلك ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وابن محيصن والحسن وطلحة والأعرج : «والله متمٌّ » بالتنوين ، «نورَه » «نورَه » بالنصب ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعمش : «متمُ نورِه » بالإضافة وهي في معنى الانفصال وفي هذا نظر .