اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يُرِيدُونَ لِيُطۡفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (8)

قوله : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ } .

الإطفاءُ هو الإخماد ، يستعملان في النار ، وفيما يجري مجراها من الضياء والظهور ، ويفترق الإخماد والإطفاء من حيث إن الإطفاء يستعمل في القليل ، فيقال : أطفأت السراج ، ولا يقال : أخمدت السراج{[56446]} .

وفي هذا اللام أوجه{[56447]} :

أحدها : أنَّها مزيدة في مفعول الإرادة .

قال الزمخشري{[56448]} : أصله { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ } كما في سورة التوبة [ 32 ] ، وكأنَّ هذه اللام ، زيدت مع فعل الإرادة توكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئت لإكرامك وفي قولك : «جئت لأكرمك » ، كما زيدت اللام في : «لا أبا لك » توكيداً لمعنى الإضافة في : «لا أباك » .

وقال ابن عطية{[56449]} : «واللام في : » ليطفئوا «لام العلة مؤكدة ، ودخلت على المفعول ؛ لأن التقدير : " يريدون أن يطفئوا نور الله " ، وأكثر ما تلزم هذه اللام إذا تقدم المفعول ، تقول : لزيد ضربت ، ولرؤيتك قصدت انتهى .

وهذا ليس مذهب سيبويه{[56450]} ، وجمهور النَّاس ، ثم قول أبي محمد : " وأكثر ما يلزم " ليس بظاهر ؛ لأنه لا قول بلزومها ألبتة ، بل هي جائزة للزيادة ، وليس الأكثر أيضاً زيادتها جوازاً ، بل الأكثر عدمها .

الثاني : أنَّها لام العلة والمفعول محذوف ، أي : يريدون إبطال القرآن ، أو دفع الإسلام ، أو هلاك الرسول صلى الله عليه وسلم ليطفئوا .

الثالث : أنَّها بمعنى : " أن " الناصبة ، وأنها ناصبة للفعل بنفسها .

قال الفرَّاء : العرب تجعل " لام كي " في موضع : " أن " ، في " أراد وأمر " ، وإليه ذهب الكسائي أيضاً .

وقد تقدم نحو من هذا في قوله : { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } في سورة النساء : [ الآية : 26 ] .

فصل :

قال ابن عباسٍ وابن زيدٍ رضي الله عنهما : المراد بنور الله - هاهنا - القرآن ، يريدون إبطاله ، وتكذيبه بالقول{[56451]} . وقال السديُّ : الإسلام ، أي : يريدون{[56452]} دفعه بالكلام{[56453]} . وقال الضحاكُ : إنَّه محمد صلى الله عليه وسلم يريدون إهلاكه بالأراجيف{[56454]} . وقال ابنُ جريجٍ : حجج الله ودلائله ، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم ، وقيل : إنه مثل مضروب ، أي : من أراد إطفاء نور الشمس بفيه ، وجده مستحيلاً ممتنعاً ، كذلك من أراد إبطال الحق ، حكاه ابنُ عيسى .

فصل في سبب نزول هذه الآية :

قال الماورديُّ{[56455]} : سبب نزول هذه الآية ، ما حكاه عطاء عن ابن عبَّاس- رضي الله عنهما - أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً ، فقال كعب بن الأشرف : يا معشر اليهود ، أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد ، فما كان ينزل عليه ، وما كان ليتم أمره ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله هذه الآية واتصل الوحي بعدها{[56456]} .

قوله : { والله مُتِمُّ نُورِهِ }قرأ الأخوان{[56457]} وحفص وابن كثير : بإضافة : " متم " ، ل : " نوره " ، والباقون : بتنوينه ونصب : " نوره " ، فالإضافة تخفيف ، والتنوين هو الأصل .

وأبو حيَّان ينازع في كونه الأصل{[56458]} .

وقوله :{ والله متم } ، جملة حالية من فاعل : " يريدون " ، أو " ليطفئوا " والمعنى : والله متم نوره ، أي : بإظهاره في الآفاق{[56459]} .

فإن قيل : الإتمام لا يكون إلاَّ عند النُّقصان ، فما معنى نقصان هذا النور ؟ .

فالجواب{[56460]} : إتمامه بحسب نقصان الأثر وهو الظُّهور في سائر البلاد من المشارق إلى المغارب ، إذ الظهور لا يظهر إلا بالإظهار ، وهو الإتمام ، يؤيده قوله تعالى : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }[ المائدة : 3 ] . وعن أبي هريرة : إن ذلك عند نزول عيسى - عليه الصلاة والسلام - قاله مجاهد .

قوله : { وَلَوْ كَرِهَ }حال من هذه الحال فهما متداخلان ، وجواب : «لو » محذوف ، أي : أتمه وأظهره{[56461]} ، وكذا { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } ، والمعنى : ولو كره الكافرون من سائر الأصناف{[56462]} ، فإن قيل : قال أولاً : { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } ، وقال ثانياً : { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } فما الفائدة ؟ .

فالجواب{[56463]} : إذا أنكروا الرسول صلى الله عليه وسلم وما أوحي إليه من الكتاب ، وذلك من نعمة الله تعالى ، والكافرون كلهم في كفران النعم سواء فلهذا قال : { ولو كره الكافرون } ، ولأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك ، فالمراد من الكافرين هنا : اليهود والنصارى والمشركون ، فلفظ الكافر أليق به ، وأما قوله : { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } ، فذلك عند إنكارهم [ التوحيد ]{[56464]} وإصرارهم عليه ، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعاهم في ابتداء الدعوة إلى التوحيد ب «لا إله إلا الله » ، فلم يقولوا : «لا إله إلا الله » ، فلهذا قال : { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } .


[56446]:السابق نفسه.
[56447]:ينظر: الدر المصون 6/311.
[56448]:ينظر: الكشاف 4/525.
[56449]:ينظر: المحرر الوجيز 5/303.
[56450]:ينظر: الكتاب 1/41.
[56451]:أخرجه الطبري في تفسيره (12/83) عن ابن زيد.
[56452]:في أ: يريدون إهلاكه.
[56453]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/56).
[56454]:ذكره الماوردي (5/530) والقرطبي (18/56) عن الضحاك.
[56455]:ينظر: النكت والعيون 5/530 والقرطبي (18/56).
[56456]:ذكره الماوردي (5/530) والقرطبي (18/56) عن الضحاك.
[56457]:ينظر: السبعة 635، والحجة 6/289، وإعراب القراءات 2/364، وحجة القراءات 707، 708، والعنوان 190، وشرح الطيبة 6/52، وإتحاف 2/537.
[56458]:ينظر: البحر المحيط 8/260.
[56459]:ينظر: القرطبي 18/56.
[56460]:ينظر: الفخر الرازي 29/273.
[56461]:ينظر: الدر المصون 6/312.
[56462]:ينظر: القرطبي 18/56.
[56463]:ينظر: الفخر الرازي 29/274.
[56464]:في أ: النور.