قوله تعالى : { الله } قرأ أبو جعفر ، وابن عامر : الله بالرفع على الاستئناف ، وخبره فيما بعده . وقرأ الآخرون بالخفض نعتا للعزيز الحميد . وكان يعقوب إذا وصل خفض . وقال أبو عمرو : الخفض على التقديم والتأخير ، تقديره : إلى صراط الله العزيز الحميد . قوله تعالى : { الذي له ما في السموات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد * }
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر قدرته فقال : { الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض . . }
أى : الله - تعالى - وحده هو الذى له ما فى السموات وما فى الأرض مِلكا ومُلكا وخلقا لا يشاركه فى ذلك مشارك ، ولا ينازعه منازع .
ولفظ الجلالة قرأه الجمهور بالجر على أنه بدل أو عطف بيان من العزيز الحميد .
وقرأه نافع وابن عامر بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى : هو الذى له ما فى السموات وما فى الأرض .
وجملة " وويل للكافرين من عذاب شديد " تهديد ووعيد لمن كفر بالحق وأعرض عنه .
ولفظ " ويل " مصدرلا يعرف له فعل من لفظه مثل " ويح " وجاء مرفوعا للدلالة على الثبات والدوام ، ومعناه الهلاك أو الفضيحة أو الحسرة ، أى : الله - تعالى - هو الذى له ما فى السموات وما فى الأرض ، وويل للكافرين بما أنزلناه إليك - أيها الرسول الكريم - من عذاب شديد سينزل بهم ، فيجعلهم يستغيثون دون أن يجدوا من يغيثهم .
ثم يعقبها التعريف بالله سبحانه . إنه مالك ما في السماوات وما في الأرض ، الغني عن الناس ، المسيطر على الكون وما فيه ومن فيه :
( الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ) . .
فمن خرج واهتدى فذاك . ولا يذكر عنه شيئا هنا ، إنما يمضي السياق إلى تهديد الكافرين ينذرهم بالويل من عذاب شديد . جزاء كفرهم هذه النعمة . نعمة إرسال الرسول بالكتاب ليخرجهم من الظلمات إلى النور . وهي النعمة الكبرى التي لا يقوم لها شكر إنسان . فكيف بالكفران :
وقوله : { اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } قرأه بعضهم مستأنفا مرفوعا ، وقرأه آخرون على الإتباع صفة للجلالة ، كما قال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } [ الأعراف : 158 ] .
وقوله : { وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } أي : ويل لهم يوم القيامة إذ خالفوك يا محمد وكذبوك .
القول في تأويل قوله تعالى : { اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَوَيْلٌ لّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } .
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والشام : اللّهُ الّذِي لَهُ ما فِي السّمَوَاتِ برفع اسم الله على الابتداء ، وتصيير قوله : الّذِي لَهُ ما فِي السّمَوَاتِ خبره . وقرأته عامّة قرّاء أهل العراق والكوفة والبصرة : اللّهِ الّذِي بخفض اسم الله على إتباع ذلك العَزِيزِ الحَمِيدِ وهما خفض .
وقد اختلف أهل العربية في تأويله إذا قرىء كذلك ، فذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقرؤه بالخفض ويقول : معناه : بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ، الذي له ما في السموات ، ويقول : هو من المؤخر الذي معناه التقديم ، ويمثله بقول القائل : مررت بالظريف عبد الله ، والكلام الذي يوضع مكان الاسم : النعت ، ثم يجعل الاسم مكان النعت ، فيتبع إعرابه إعراب النعت الذي وضع موضع الاسم كما قال بعض الشعراء :
لَوْ كُنْتَ ذَا نَبْلٍ وذَا شَرِيبِ *** ما خِفْتَ شَدّاتِ الخَبِيثِ الذّيبِ
وأما الكسائيّ فإنه كان يقول فيما ذكر عنه من خفض أراد أن يجعله كلاما واحدا وأتبع الخفض الخفْضَ ، وبالخفض كان يقرأه .
والصواب من القول في ذلك عندي ، أنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما أئمة من القرّاء معناهما واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وقد يجوز أن يكون الذي قرأه بالرفع ، أراد معنى من خفض في إتباع الكلام بعضه بعضا ، ولكنه رفع لانفصاله من الاَية التي قبله ، كما قال جلّ ثناؤه : إنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأمْوَالَهُمْ . . . إلى آخر الاَية ، ثم قال : التّائِبُونَ العابِدُونَ . ومعنى قوله : اللّهُ الّذِي لَهُ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ الله الذي يملك جميع ما في السموات وما في الأرض يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أنزلنا إليك هذا الكتاب لتدعو عبادي إلى عبادة من هذه صفته ، ويدعوا عبادة من لا يملك لهم ولا لنفسه ضرّا ولا نفعا من الاَلهة والأوثان . ثم توعد جلّ ثناؤه من كفر به ولم يستجب لدعاء رسوله إلى ما دعاه إليه من إخلاص التوحيد له ، فقال : وَوَيْلٌ للكافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ يقول : الوادي الذي يسيل من صديد أهل جهنم ، لمن جحد وحدانيته وعبد معه غيره ، من عذاب الله الشديد .
{ الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } على قراءة نافع وابن عامر مبتدأ وخبر ، أو { الله } خبر مبتدأ محذوف والذي صفته وعلى قراءة الباقين عطف بيان ل { العزيز } لأنه كالعلم لاختصاصه بالمعبود على الحق . { وويل للكافرين من عذاب شديد } وعيد لمن كفر بالكتاب ولم يخرج به من الظلمات إلى النور ، والويل نقيض الوأل وهو النجاة ، وأصله النصب لأنه مصدر إلا أنه لم يشتق منه فعل لكنه رفع لإفادة الثبات .
وقرأ نافع وابن عامر «اللهُ الذي » برفع اسم الله على القطع والابتداء وخبره «الذي » ، ويصح رفعه على تقدير هو الله الذي . وقرأ الباقون بكسر الهاء على البدل من قوله :
{ العزيز الحميد } ، وروى الأصمعي وحده هذه القراءة عن نافع . وعبر بعض الناس عن هذا بأن قال : التقدير : إلى صراط الله العزيز الحميد ، ثم قدم الصفات وأبدل منها الموصوف .
قال القاضي أبو محمد : وإذا كانت هكذا فليست بعد بصفات على طريقة صناعة النحو ، وإن كانت بالمعنى صفاته ، ذكر معها أو لم يذكر{[6996]} .
وقوله : { وويل } معناه : وشدة وبلاء ونحوه . أي يلقونه من عذاب شديد ينالهم الله به يوم القيامة ، ويحتمل أن يريد في الدنيا ، هذا معنى قوله : { وويل } . وقال بعض : «ويل » اسم واد في جهنم يسيل من صديد أهل النار .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خبر يحتاج إلى سند يقطع العذر ، ثم لو كان لقلق تأويل هذه الآية لقوله : { من عذاب } وإنما يحسن تأوله في قوله : { ويلٌ للمطففين }{[6997]} [ المطففين : 1 ] وما أشبهه ، وأما هنا فإنما يحسن في «ويل » أن يكون مصدراً ، ورفعه على نحو رفعهم : سلام عليك وشبهه .
{ الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض }
قرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر برفع اسم الجلالة على أنه خبر عن مبتدإ محذوف . والتقدير : هو ( أي العزيزُ الحميد ) اللّهُ الموصوف بالذي له ما في السماوات الأرض . وهذا الحذف جارٍ على حذف المسند إليه المسمى عند علماء المعاني تبعاً للسكاكِي بالحَذف لمتابعة الاستعمال ، أي استعمال العرب عندما يجري ذكر موصوف بصفات أن ينتقلوا من ذلك إلى الإخبار عنه بما هو أعظم مما تقدم ذكره ليكسب ذلك الانتقال تقريراً للغرض ، كقول إبراهيم الصولي :
سأشكر عَمْراً إن تراختْ منيتـــي *** أيــاديَ لم تُمْنَنْ وإنْ هيَ جَلّت
فَتى غيرُ محجوب الغنى عن صديقه *** ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
وقرأه الباقون إلاّ رُويْساً عن يعقوب بالجَرّ على البدلية من { العزيز الحميد } ، وهي طريقة عربية . ومآل القراءتين واحد وكلتا الطريقتين تفيد أن المنتقل إليه أجدر بالذكر عقب ما تقدمه ، فإن اسم الجلالة أعظم من بقية الصفات لأنه عَلَم الذات الذي لا يشاركه موجود في إطلاقه ولا في معناه الأصلي المنقول منه إلى العلمية إلا أن الرفع أقوى وأفخم .
وقرأه رُوَيْس عن يعقوب بالرفع إذا وقف على قوله : { الحميد } وابتدىء باسم { الله } ، فإذا وصل { الحميد } باسم { الله } جر اسم الجلالة على البدلية .
وإجراء الوصف بالموصول على اسم الجلالة لزيادة التفخيم لا للتعريف ، لأن ملك سائر الموجودات صفة عظيمة والله معروف بها عند المخاطبين . وفيه تعريض بأن صراط غير الله من طرق آلهتهم ليس بواصل إلى المقصود لنقصان ذويه . وفي ذكر هذه الصلة إدماجُ تعريض بالمشركين الذين عبدوا ما ليس له السماوات والأرض .
{ وويل للكافرين من عذاب شديد }
لمّا أفاد قوله : { إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض } تعريضاً بالمشركين الذين اتبعوا صراط غير الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض عطف الكلام إلى تهديدهم وإنذارهم بقوله : { وويل للكافرين من عذاب شديد } ، أي للمشركين به آلهة أخرى .
وجملة { وويل للكافرين } إنشاء دعاء عليهم في مقام الغضب والذم ، مثل قولهم : ويحك ، فعطفه من عطف الإنشاء على الخبر .
{ وويل } مصدر لا يعرف له فعل ، ومعناه الهلاك وما يقرب منه من سوء الحالة ، ولأنه لا يُعرف له فعل كان اسم مصدر وعومل معاملة المصادر ، ينصب على المفعولية المطلقة ويرفع لإفادة الثبات ، كما تقدم في رفع { الحمد لله } في سورة الفاتحة . ويقال : ويل لك وويلك ، بالإضافة . ويقال : يا ويلك ، بالنداء . وقد يذكر بعد هذا التركيب سببه فيؤتى به مجروراً بحرف { مِن } الابتدائية كما في قوله هنا { من عذاب شديد } ، أي هلاكاً ينجر لهم من العذاب الشديد الذي يلاقونه وهو عذاب النار .
وتقدم الويل عند قوله تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } في سورة البقرة ( 79 ) .
والكافرون هم المعهودون وهم الذين لم يخرجوا من الظلمات إلى النور ، ولا اتبعوا صراط العزيز الحميد ، ولا انتفعوا بالكتاب الذي أنزل لإخراجهم من الظلمات إلى النور .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... معنى قوله:"اللّهُ الّذِي لَهُ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ": الله الذي يملك جميع ما في السموات وما في الأرض، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أنزلنا إليك هذا الكتاب لتدعو عبادي إلى عبادة من هذه صفته، ويدعوا عبادة من لا يملك لهم ولا لنفسه ضرّا ولا نفعا من الآلهة والأوثان. ثم توعد جلّ ثناؤه من كفر به ولم يستجب لدعاء رسوله إلى ما دعاه إليه من إخلاص التوحيد له، فقال: "وَوَيْلٌ للكافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ "يقول: الوادي الذي يسيل من صديد أهل جهنم لمن جحد وحدانيته وعبد معه غيره، من عذاب الله الشديد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {وويل للكافرين من عذاب شديد} قال قائلون: الويل: الشدة، وقيل: الويل هو اسم واد في جهنم، وقال [أبو بكر] الأصم: الويل: هو نداء كل مكروب وملهوف من شدة البلاء، وقول الحسن كذلك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الله} عطف بيان للعزيز الحميد... ولما ذكر الخارجين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان توعد الكافرين بالويل. فإن قلت: ما وجه اتصال قوله: {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} بالويل؟ قلت: لأنّ المعنى أنهم يولولون من عذاب شديد، ويضجون منه، ويقولون: يا ويلاه، كقوله: {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13]...
{الله الذي له ما في السموات وما في الأرض} أي المراد من ذلك العزيز الحميد هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض...
واعلم أن قوله تعالى: {له ما في السموات وما في الأرض} يفيد الحصر والمعنى أن ما في السموات وما في الأرض له لا لغيره، وذلك يدل على أنه لا مالك إلا الله ولا حاكم إلا الله...
{وويل للكافرين من عذاب شديد} المعنى: أنهم لما تركوا عبادة الله تعالى الذي هو المالك للسموات والأرض ولكل ما فيهما إلى عبادة ما لا يملك ضرا ولا نفعا ويُخلَق ولا يخلق، ولا إدراك له ولا فعل، فالويل ثم الويل لمن كان كذلك...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض "أي ملكا وعبيدا واختراعا وخلقا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{الله} أي المحيط علماً وقدرة {الذي له ما في السماوات} أي الأجسام العالية من الأراضي وغيرها. ولما كان في سياق الدلالة على الخالق وإثبات توحيده، أكد بإعادة الموصول مع صلته فقال: {وما في الأرض} أي فويل لمن أشرك به شيئاً منهما أو فيهما، فإنه لا أبين من أن ما كان مملوكاً لا يصلح لأن يكون شريكاً... {للكافرين} الذين ستروا أدلة عقولهم {من عذاب شديد} تتضاعف آلامه وقوته...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
...لما بيَّن الدليل والبرهان توعد من لم ينقد لذلك، فقال: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} لا يقدر قدره، ولا يوصف أمره...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... ثم يعقبها التعريف بالله سبحانه. إنه مالك ما في السماوات وما في الأرض، الغني عن الناس، المسيطر على الكون وما فيه ومن فيه:
(الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض)..
فمن خرج واهتدى فذاك. ولا يذكر عنه شيئا هنا، إنما يمضي السياق إلى تهديد الكافرين ينذرهم بالويل من عذاب شديد. جزاء كفرهم هذه النعمة. نعمة إرسال الرسول بالكتاب ليخرجهم من الظلمات إلى النور. وهي النعمة الكبرى التي لا يقوم لها شكر إنسان. فكيف بالكفران:
(وويل للكافرين من عذاب شديد)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إجراء الوصف بالموصول على اسم الجلالة لزيادة التفخيم لا للتعريف، لأن ملك سائر الموجودات صفة عظيمة والله معروف بها عند المخاطبين. وفيه تعريض بأن صراط غير الله من طرق آلهتهم ليس بواصل إلى المقصود لنقصان ذويه. وفي ذكر هذه الصلة إدماجُ تعريض بالمشركين الذين عبدوا ما ليس له السماوات والأرض. {وويل للكافرين من عذاب شديد} لمّا أفاد قوله: {إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض} تعريضاً بالمشركين الذين اتبعوا صراط غير الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض عطف الكلام إلى تهديدهم وإنذارهم بقوله: {وويل للكافرين من عذاب شديد}، أي للمشركين به آلهة أخرى. وجملة {وويل للكافرين} إنشاء دعاء عليهم في مقام الغضب والذم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
صدر سبحانه الجملة التي فيها كمال سلطان الله تعالى في الوجود بلفظ الجلالة، لتربية المهابة في نفس القارئ؛ ولأن ذلك يتلاقى مع سلطان الله الكامل، و {له ما في السموات وما في الأرض} للدلالة على ملكيته لكل ما في السموات، وتكرار {ما في} لدلالة على كمال استغراق الملكية له سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء قدير، مالك كل شيء، وذكر سبحانه ملكيته لما في السماء والأرض وذلك يقتضي ملكيته لهما؛ لأن ملكية ما يشتملان عليه يقتضي – لا محالة -ملكيتهما، إذ ملكية المظروف تقتضي ملكية الظرف، وإن الملكية الكاملة لهذا الوجود كله بما فيه من أجرام، وأحياء عاقلة وغير عاقلة يتضمن أنه يملك الأنداد، وأنها وعبادها في قبضته سبحانه العليم بكل شيء، وفي ذلك برهان قاطع أنها غير جديرة بالعبادة؛ ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذكر سلطان الله تعالى في الوجود كله، وأنه لا سلطان لغيره ذكر بعض مقتضياته، وهو كفر من يعبد الأوثان، واستحقاقه للعذاب؛ ولذا قال تعالى: {وويل للكافرين من عذاب شديد}...
{الذي له ما في السماوات والأرض} لا يقع في هذا المُلك إلا ما شاء هو، فمن آمن به أنصف نفسه وحياته وآخرته، أما من لم يؤمن به فله المقابل، وهو قوله الحق: {وويل للكافرين من عذاب شديد} وهذا الوَيْل ليس في الآخرة فقط، بل في الدنيا أيضا، لأن الإنسان حين تعترضه الصِّعاب والعقبات والمصائب التي ليس له أسباب يدفعها بها، هنا يستطيع المؤمن أن يذكر أن له ربا فوق الأسباب، ويرتاح إلى معونة الحق سبحانه له، وهكذا يشعر أن له رصيدا في الدنيا يعتمد عليه في مواجهة الأحداث الجِسَام. أما غير المؤمن فليس أمامه سوى اليأس؛ ولذلك نجد انتشار الانتحار بين غير المؤمنين؛ لأن هناك أحداثا فوق أسبابهم، ولا يستطيعون دفعها، وليس لهم إيمان برب يرجعون إليه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} فإذا كان يملك ذلك كله، فلا بد من أن يملك التصرف في تنظيم حياة الإنسان على الأرض، لتنسجم مع الخطة التي أراد للأرض أن تتحرك من خلالها، وللإنسان أن ينطلق منها في حياته الفكرية والعملية، كي يعيش العبودية المطلقة أمام الربوبية المطلقة، في خط الإيمان والطاعة والالتزام، فذلك ما يضمن للإنسان أمنه من العذاب، أمّا من يتمرد على الله، ويخرج من خط العبودية، فلا مجال للأمن لديه، {وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} في ما يعنيه الويل من حالة الإحباط والسقوط والاستغاثة في مواقف الضعف...