اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَوَيۡلٞ لِّلۡكَٰفِرِينَ مِنۡ عَذَابٖ شَدِيدٍ} (2)

قوله : { الله الذي } قرأ نافع{[19104]} وابن عامر وأبو جعفر برفع الجلالة والباقون بالجر ورواها الأصمعي ، وكان يعقوب إذا وصل خفض .

وأما الرفع فعلى وجهين :

أحدهما : أنه مبتدأ خبره الموصول بعده ، أو محذوف ، تقديره : الله الذي له ما في السماوات ، وما في الأرض العزيز الحميد ، حذف لدلالة ما تقدَّم .

والثاني : أنَّه خبر لمبتدأ مضمر ، أي : هو الله ، وذلك على المدح ، وأمَّا الجرّ فعلى البدلِ عند أبي البقاءِ ، والحوفي ، وابن عطيَّة والبيان عند الزمخشري قال : " لأنه جرى مجرى الأسماء لغلبته على المعبود بحقّ ، كالنَّجم للثُّريَّا " .

قال أبو حيان{[19105]} : " وهذا التعليل لا يتمُّ إلاَّ أن يكون أصله " الإله " ثم فعل فيه ما تقدم أول الكتاب " .

وقال ابن عصفور : " لا تقدّم صفة على موصوف إلاَّ حيث سمع " وهو قليل ، وللعرب فيه وجهان :

أحدهما : أن تتقدم الصفة بحالها ، وفيه إعرابان للنحويين :

أحدهما : أن يعرب صفة متقدمة .

والثاني : أن يجعل الموصوف بدلاً من صفته .

والثاني : من –الأولين- : أن تضيف الصفة إلى الموصوف ، فعلى هذا يجوز أن يعرب " العَزيزِ الحَميدِ - " صفة متقدمة . ومن مجيء تقديم الصفة قوله : [ البسيط ]

والمُؤمِنِ العَائذَاتِ الطَّيْر يَمْسحُهَا *** رُكْبَانُ مكَّة بَيْنَ الفيْلِ والسَّعَدِ{[19106]}

وقل الآخر : [ الرجز ]

وبِالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَار{[19107]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يريد : الطير العائذات ، وبالعمر الطويل .

قال شهابُ الدِّين{[19108]} -رحمه الله- : " وهذا فيما لم يكن الموصوف نكرة ، أمَّا إذا كان نكرة فتنصب تكل الصفة على الحال " .

قال ابن الخطيب{[19109]} : " اللهُ " : اسم علم لذاته المخصوصة وإذا كان كذلك ، فإذا أردنا أن نذكر الصفات ذكرنا أولاً قولنا : " اللهُ " ، ثم وصفناه كقوله : { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمان الرحيم } [ الحشر : 22 ] الملك القدُّوسُ ، ولا يمكنننا أن نعكس الأمر فنقول : هو الرحمان الرحيم الله ، فعلمنا أنَّ " اللهَ " اسم علم للذَّات المخصوصة ، وسائر الألفاظ دالة على الصِّفات .

وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن : أن يذكر الاسم ثم يذكر عقيبه الصفات ، كقوله : { هُوَ الله الخالق البارئ المصور } [ الحشر : 24 ] فأمَّا أن تعكس فتقول : هو الخالق المصور البارئ الله ؛ فذلك غير جائز ، وإذا ثبت هذا فنقول : الذين قرؤوا برفع الجلالة على أنَّه مبتدأ ، وما بعده خبر هو الصحيح ، والذين قرءوا بالجرِّ إتباعاً لقوله : { العزيز الحميد } مشكل لما بيِّنا من أنَّ الترتيب الحسن أن يقال : الله الخالق ، وعند هذا اختلفوا في الجواب :

فقال أبو عمرو بن العلاء : القراءةُ بالخفض على التَّقديم ، والتَّأخير ، والتقدير : صراط الله العزيز الحميدِ الذي له ما في السماوات [ والأرض ]{[19110]} .

وقيل : لا يبعد أن تذكر الصفة أولاً ثمَّ يذكر الاسم ، ثم تذكر الصِّفة مرة أخرى كما يقال : الإمام الأجلّ محمد الفقيه ، وهو بعينه نظير قوله : { صِرَاطِ العزيز الحميد الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } .

وتحقيق القول فيه : أنَّا بيَّنا أن الصِّراط إنَّما يكون ممدوحاً محموداً إذا كانا صراطاً للعالم القادر الغنيّ ، والله تعالى عبَّر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله : { العزيز الحميد } فوقعت الشبهة في أن ذلك : { العزيز الحميد } من هو ؟ فعطف عليها قوله { الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } إزالة لتلك الشُّبهة .

قوله : " وَويْلٌ " مبتدأ ، وجاز الابتداء به ؛ لأنه دعاء ك " سَلامٌ عَليكُمْ " ، و " لِلْكافِرينَ " خبره ، و " مِنْ عذَابٍ " متعلِّق بالويلِ .

ومنعه أبو حيَّان ؛ لأنَّه يلزمُ منه الفصل بين المصدر ومعموله ، وهو ممنوعٌ حيث يتقدَّم المصدر بحرف مصدري وفعل ، وقد تقدم .

ولذلك جوزوا تعلق " بِمَا صَبرْتُمْ " ب { سَلاَمٌ } [ الرعد : 24 ] ، ولم يعترضوا عليه بشيءٍ ، ولا فرق بين الموضعين .

وقال الزمخشريُّ{[19111]} : " فإن قلت : ما وجه اتِّصالِ قوله : { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } بالويل ؟ قلت : لأنَّ المعنى يولولون من عذاب شديد " .

قال أبو حيان{[19112]} : فظاهر يدلُّ على تقدير عامل يتعلق به { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } .

ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ ؛ لأنه صفة للمبتدأ ، وفيه سلامة من الاعتراض المتقدم ولا يضر الفصل بالخبر .

فصل

والمعنى : أنَّهم لما تركوا عبادة الله المالك للسماوات ، والأرض ، وكل ما فيها وعبدوا ما لا يملك نفعاً ، ولا ضرَّا ، ويُخلَقُ ، ولا يَخْلِقُ ، ولا إدراك له ، فالويل كل الويل لمن هو كذلك ، وإنما خصه بالويل ، لأنهم يولولون من عذابٍ شديدٍ ، ويقولون : يا ويلاه نظيره قوله تعالى : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] ثم وصفهم الله تعالى بثلاثة أنواع :


[19104]:ينظر الحجة 5/25 وإعراب القراءات السبع 1/334 وحجة القراءات 376، والإتحاف 2/166 والمحرر الوجيز 3/322 والبحر المحيط 5/393، والدر المصون 4/250.
[19105]:ينظر: البحر المحيط 5/393.
[19106]:البيت للنابغة الذبياني. ينظر: ديوانه (15)، شرح المفصل (3/11)، المقرب (1/227)، البحر المحيط (5/393)، روح المعاني (13/182)، شواهد الكشاف (380)، شرح المعلقات العشر (300)، الدر المصون (4/250).
[19107]:تقدم.
[19108]:ينظر: الدر المصون 4/250.
[19109]:ينظر: الفخر الرازي 19/60.
[19110]:سقط من ب.
[19111]:ينظر: الكشاف 2/537.
[19112]:ينظر: البحر المحيط 5/393.