ثم فصل - سبحانه - أحوال الناس فى هذا اليوم فقال : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ } .
قال الشوكانى : الجملة مستأنفة من كون ثَمَّ وجوه فى ذلك اليوم متصفة بهذهالصفة المذكورة ، و " وجوه " مرتفع على الابتداء - وإن كانت نكرة مرتفع على الابتداء - وإن كانت نكرة - لوقوعه فى مقام التفصيل . . والتنوين فى " يومئذ " عوض عن المضاف إليه . أى : يوم غشيان الغاشية .
والخاشعة : الذليلة الخاضعة ، وكل متضائل ساكن يقال له خاشع . .
والمراد بالوجوه : أصحابها ، من باب التعبير عن الكل بالبعض ، وخصت الوجوه بالذكر ، لأنها أشرف أعضاء الإِنسان ، ولأنها هى التى تظهر عليها الآثار المختلفة من حزن أو فرح . أى : وجوه فى يوم قيام الساعة ، تكون خاشعة ذليلة ، تبدو عليها آثار الهوان والانتكاس والخزى ، كما قال - تعالى - : { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذل . . . }
وقوله : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ يقول تعالى ذكره : وجوه يومئذٍ ، وهي وجوه أهل الكفر به . خاشعة : يقول : ذليلة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ : أي ذليلة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : خاشِعَةٌ قال : خاشعة في النار .
{ وجوه } مبتدأ و { خاشعة } خبر والجملة بيان لحديث الغاشية كما يفيده الظرف من قوله : { يومئذ } فإن مَا صدَقَه هو يومُ الغاشية . ويكون تنكير { وجوه } وهو مبتدأ قُصد منه النوع .
و { خاشعة } ، { عاملة } ، { ناصبة } أخبار ثلاثة عن { وجوه } ، والمعنى : أناس خاشعون الخ .
فالوجوه كناية عن أصحابها ، إذ يكنى بالوجه عن الذات كقوله تعالى : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [ الرحمن : 27 ] . وقرينة ذلك هنا قوله بعده : { ليس لهم طعام إلا من ضريع } إذ جعل ضمير الوجوه جماعة العقلاء .
وأوثرت الوجوه بالكناية عن أصحابها هنا وفي مثل هذا المقام لأن حالة الوجوه تنبىء عن حالة أصحابها إذ الوجه عنوان عما يجده صاحبه من نعيم أو شقوة كما يقال : خرج بوجه غير الوجه الذي دخل به .
وتقدم في قوله تعالى : { وجوه يومئذ مسفرة } الآية في سورة عبس ( 38 ) .
ويجوز أن يجعل إسناد الخشوع والعمل والنصَب إلى وجوه } من قبيل المجاز العقلي ، أي أصحاب وجوه .
ويتعلق { يومئذ } ب { خاشعة } قدم على متعلقه للاهتمام بذلك اليوم ولما كانت ( إذ ) من الأسماء التي تلزم الإضافة إلى جملة فالجملة المضاف إليها ( إذْ ) محذوفة عُوّض عنها التنوين ، ويدل عليها ما في اسم { الغاشية } من لمح أصل الوصفية لأنها بمعنى التي تغشى الناس فتقدير الجملة المحذوفة يوم إذ تغشى الغاشية .
أو يدل على الجملة سياق الكلام فتقدر الجملة : يوم إذ تحدث أو تقع .
و { خاشعة } : ذليلة يطلق الخشوع على المذلة قال تعالى : { وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل } [ الشورى : 45 ] وقال : { خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة } [ المعارج : 44 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عن حالهم ، فقال : { وجوه يومئذ خاشعة } يعني ذليلة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ" يقول تعالى ذكره : وجوه يومئذٍ ، وهي وجوه أهل الكفر به . خاشعة : يقول : ذليلة .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وإنما خص الوجه بالذكر لأن الحزن والسرور إذا استحكما في القلب أثرا في الوجه ، فيكون في ذكر الوجه وصف الغاية التي هم عليها من الذل . ...
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
والمراد بالوجوه أصحابها فعبر بالجزء عن الكل ، ولأن الوجه أشرف أعضاء الإنسان ، فعبر به عنه . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ وجوه } أي كثيرة جداً كائنة { يومئذ } أي إذ تغشى الناس { خاشعة } أي ذليلة مخبتة من الخجل والفضيحة والخوف والحسرة التي لا تنفع في مثل هذا الوقت ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهناك : يومئذ وجوه خاشعة ذليلة متعبة مرهقة ؛ عملت ونصبت فلم تحمد العمل ولم ترض العاقبة ، ولم تجد إلا الوبال والخسارة ، فزادت مضضا وإرهاقا وتعبا . ...
تلك الوجوه التي أبت أن تخشع لله عز وجل خشوعاً اختيارياً، هي الآن خاشعة اضطراراً.