وكان الكفار يسألون هذه الأشياء على سبيل الاستهزاء فأنزل الله تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم : { ولقد استهزئ برسل من قبلك } ، كما استهزؤوا بك ، { فأمليت للذين كفروا } ، أمهلتهم وأطلت لهم المدة ، ومنه الملوان ، وهما : الليل والنهار ، { ثم أخذتهم } عاقبتهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار ، { فكيف كان عقاب } ، أي : عقابي لهم .
{ 32 } { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ }
يقول تعالى لرسوله -مثبتا له ومسليا- { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ } فلست أول رسول كذب وأوذي { فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } برسلهم أي : أمهلتهم مدة حتى ظنوا أنهم غير معذبين . { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } بأنواع العذاب { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } كان عقابا شديدا وعذابا أليما ، فلا يغتر هؤلاء الذين كذبوك واستهزؤوا بك بإمهالنا ، فلهم أسوة فيمن قبلهم من الأمم ، فليحذروا أن يفعل بهم كما فعل بأولئك .
ثم أخذت السورة الكريمة بعد ذلك في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وفى إقامة الأدلة على وحدانية الله - تعالى - وعلى بطلان الشرك ، وفى بيان ما أعده للكافرين من عقاب ، وما أعده للمتقين من ثواب فقال تعالى :
{ وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ . . . } .
قوله - سبحانه - { وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ . . . . } تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من حزن بسبب تعنت المشركين معه . ومطالبتهم له بالمطالب السخيفة التي لا صلة لها بدعوته ، كطلبهم منه تسيير الجبال وتقطيع الأرض ، وتكليم الموتى .
والاستهزاء : المبالغة في السخرية والتهكم من المستهزأ به . والإِملاء : الإمهال والترك لمدة من الزمان .
والتنكير في قوله { برسل } للتكثير ، فقد استهزأ قوم نوح به ، وكانوا كلما مروا عليه وهو يصنع السفينة سخروا منه .
واستهزأ قوم شعيب به وقالوا له : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } واستهزأ قوم هود به وقالوا له : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ . . . } واستهزأ فرعون بموسى فقال : { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } والمعنى : ولقد استهزأ الطغاة والجاحدون برسل كثيرين من قبلك -أيها الرسول الكريم - { فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أى : فأمهلتهم وتركتهم مدة من الزمان في أمن ودعة .
{ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } أخذ عزيز مقتدر { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } فانظر كيف كان عقابى إياهم ، لقد كان عقابا رادعا دمرهم تدميرا .
فالاستفهام للتعجيب مما حل بهم ، والتهويل من شدته وفظاعته وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير } قال ابن كثير : وفى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " وإن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم { وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } " .
يقول تعالى مسليا لرسوله صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ } أي : فلك فيهم أسوة ، { فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي : أنظرتهم وأجلتهم ، { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } أخذةً رابية ، فكيف بلغك ما صنعت بهم وعاقبتهم ؟ كما قال تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ الحج : 48 ]
وفي الصحيحين : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ]{[15660]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلّذِينَ كَفَرُواْ ثُمّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد إن يستهزىء هؤلاء المشركون من قومك ويطلبوا منك الاَيات تكذيبا منهم ما جئتهم به ، فاصبر على أذاهم لك وامض لأمر ربك في إعذارهم والإعذار إليهم ، فلقد استهزأت أمم من قبلك قد خلَت فمضت برُسُلي ، فأطلت لهم في المَهَل ومددت لهم في الأجَل ، ثم أحللت بهم عذابي ونقمتي حين تمادوا في غيهم وضلالهم ، فانظر كيف كان عقابي إياهم حين عاقبتهم ، ألم أذقهم أليم العذاب وأجعلهم عبرة لأولي الألباب . والإملاء في كلام العرب : الإطالة ، يقال منه : أمليت لفلان : إذا أطلت له في المهل ، ومنه المُلاوة من الدهر ، ومنه قولهم : تملّيت حينا ، ولذلك قيل لليل والنهار : «الملوان » لطولهما ، كما قال ابن مقبل :
ألا يا دِيارَ الحَيّ بالسّبُعانِ *** ألَحّ عَلَيْها بالبِلَى المَلَوَانِ
وقيل للخرق الواسع من الأرض : «ملاً » ، كما قال الشاعر :
فاخْضَلّ منها كُلّ بالٍ وعَيّنٍ *** وجَفّ الرّوَايا بالمَلا المُتَباطِنِ
وقوله : { ولقد استهزىء } الآية ، هذه آية تأنيس للنبي عليه السلام ، أي لا يضيق صدرك يا محمد بما ترى من قومك وتلقى منهم ، فليس ذلك ببدع ولا نكير ، قد تقدم هذا في الأمم و «أمليت لهم » أي مددت المدة وأطلت ، والإملاء : الإمهال على جهة الاستدراج ، وهو من الُملاوة من الزمن ، ومنه : تمليت حسن العيش{[6971]} . وقوله : { فكيف كان عقاب } تقرير وتعجيب ، في ضمنه وعيد للكفار المعاصرين لمحمد عليه السلام .
عطف على جملة { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } [ سورة الرعد : 31 ] الخ ، لأن تلك المُثُل الثلاثة التي فرضت أريد بها أمور سألها المشركون النبي استهزاءً وتعجيزاً لا لترقب حصولها .
وجاءت عقب الجملتين لما فيها من المناسبة لهما من جهة المُثل التي في الأولى ومن جهة الغاية التي في الثانية .
وقد استهزأ قوم نوح به عليه السلام { وكُلّما مَرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه } [ سورة هود : 38 ] ، واستهزأت عاد بهود عليه السلام { فأسقِط علينا كِسْفاً من السماء إن كنتَ من الصادقِين } [ سورة الشعراء : 187 ] ، واستهزأت ثمود بصالح عليه السلام { قال الملأ الّذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة } [ سورة الأعراف : 66 ] ، واستهزأوا بِشُعيْب عليه السلام { قالوا يا شُعيب أصلواتك تأمُرك أن نتْرك ما يَعبد آبَاؤنَا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنّك لأنت الحليم الرشيد } [ سورة هود : 87 ] ، واستهزأ فرعون بموسى عليه السلام { أم أنا خير من هذا الّذي هو مَهين ولا يكاد يبين } [ سورة الزخرف : 43 ] .
والاستهزاء : مبالغة في الهَزْء مثل الاسْتسْخار في السخرية .
والإملاء : الإمهال والتركُ مدة . ومنه واهجرني ملياً . وتقدم في قوله تعالى : { والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم } في [ سورة الأعراف : 182 ] .
والاستفهام في فكيف كان عقاب للتعجيب .
و عقاب أصله عقابي مثل ما تقدم آنفاً في قوله : { وإليه متاب } .
والكلام تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، ووعيد للمشركين .