{ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ْ } أي : وما وجدنا لأكثر الأمم الذين أرسل اللّه إليهم الرسل من عهد ، أي : من ثبات والتزام لوصية اللّه التي أوصى بها جميع العالمين ، ولا انقادوا لأوامره التي ساقها إليهم على ألسنة رسله .
{ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ْ } أي : خارجين عن طاعة اللّه ، متبعين لأهوائهم بغير هدى من اللّه ، فاللّه تعالى امتحن العباد بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وأمرهم باتباع عهده وهداه ، فلم يمتثل لأمره إلا القليل من الناس ، الذين سبقت لهم من اللّه ، سابقة السعادة .
وأما أكثر الخلق فأعرضوا عن الهدى ، واستكبروا عما جاءت به الرسل ، فأحل اللّه بهم من عقوباته المتنوعة ما أحل .
ثم كشف القرآن عن طبيعتهم فقال : { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } .
أى : ما وجدنا لأكثر الناس من وفاء بعهودهم في الإيمان والتقوى ، بل الحال والشأن أننا علمنا أن أكثرهم فاسقين ، أى خارجين عن طاعتنا ، تاركين لأوامرنا ، منتهكين لحرماتنا .
وبعضهم يجعل الضمير في { لأَكْثَرِهِم } لأهل القرى المهلكة ، وأنهم كانوا إذا عاهدوا الله بعهد نقضوه ولم يوفوا به . والأول أرجح .
والمراد بالعهد ما عاهدهم الله عليه من الإيمان والتقوى والعمل الصالح .
ومن في قوله { مِّنْ عَهْدٍ } مزيدة للاستغراق وتأكيد النفى .
وإنما حكم على الأكثرين منهم ينقض العهود ، لأن الأقلية منهم قد آمنوا ووفوا بما عاهدوا الله عليه من الإيمان والعمل الصالح .
وهذا لون من الاحتراس الذي امتاز به القرآن في عرضه للحقائق ، فهو لا يلقى التهم جزافاً ، وإنما يعطى كل ذى حق حقه ، فإن كان الأكثرون قد استحقوا الذم لكفرهم ونقضهم لعهودهم ، فإن هناك قلة آمنت فاستحقت المدح والثناء .
قال الآلوسى : و { إِن } مخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف ، ولا عمل لها فيه لأنها ملغاة على المشهور . وذهب الكوفيون إلى أن { إِن } هنا نافية واللام في { لَفَاسِقِينَ } بمعنى إلا ، أى : ما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين " .
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة التي جاءت في أعقاب الحديث عن أهل القرى المهلكة ، قد بينت لنا السنن الإلهية في سعادة الأمم وشقائها ، وكشفت لنا عن حكمته - سبحانه - في ابتلائه لعباده بالسراء تارة وبالضراء أخرى ، وحضت الناس على المراقبة لله وشكره على نعمائه ، وحذرتهم من الغفلة والأمان من مكره - سبحانه - فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون .
ولقد تكشفت تلك التجارب عن طبيعة غالبة :
( وما وجدنا لأكثرهم من عهد ، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) . .
والعهد الذي يشار إليه هنا قد يكون هو عهد الله على فطرة البشر ، الذي ورد ذكره في أواخر السورة : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا ) . .
وقد يكون هو عهد الإيمان الذي أعطاه أسلافهم الذين آمنوا بالرسل . ثم انحرفت الخلائف . كما يقع في كل جاهلية . إذ تظل الأجيال تنحرف شيئاً فشيئاً حتى تخرج من عهد الإيمان ، وترتد الى الجاهلية .
وأياً كان العهد فقد تبين أن أهل هذه القرى لا عهد لأكثرهم يستمسكون به ، ويثبتون عليه . إنما هو الهوى المتقلب ، والطبيعة التي لا تصبر على تكاليف العهد ولا تستقيم .
( وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) . .
منحرفين عن دين الله وعهده القديم . . وهذه ثمرة التقلب ، ونقض العهد ، واتباع الهوى . . ومن لم يمسك نفسه على عهده مع الله ، مستقيماً على طريقته ، مسترشداً بهداه . فلا بد أن تتفرق به السبل ، ولا بد أن ينحرف ، ولا بد أن يفسق . . وكذلك كان أهل تلك القرى . وكذلك انتهى بهم المطاف . .
{ وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ } أي : لأكثر الأمم الماضية { مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } أي : ولقد وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والامتثال . والعهد الذي أخذه [ عليهم ]{[11991]} هو ما جبلهم عليه وفطرهم عليه ، وأخذ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم ، وأنه لا إله إلا هو ، فأقروا بذلك ، وشهدوا على أنفسهم به ، فخالفوه وتركوه وراء ظهورهم ، وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة ، لا من عقل ولا شرع ، وفي الفطر السليمة خلاف ذلك ، وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عن ذلك ، كما جاء في صحيح مسلم يقول الله تعالى : " إني خلقت عبادي حُنَفَاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحَرّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم " . وفي الصحيحين : " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه " الحديث . وقال تعالى في كتابه العزيز : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] وقال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] إلى غير ذلك من الآيات .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : ولم نجد لأكثر أهل هذه القرى التي أهلكناها واقتصصنا عليك يا محمد نبأها من عهد ، يقول : من وفاء بما وصيناهم به من توحيد الله ، واتباع رسله ، والعمل بطاعته ، واجتناب معاصيه وهجر عبادة الأوثان والأصنام . والعهد : هو الوصية ، وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته . وَإنْ وَجَدْنا أكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ يقول : وما وجدنا أكثرهم إلا فسقة عن طاعة ربهم ، تاركين عهده ووصيته . وقد بيّنا معنى الفسق قبل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : وَإنْ وَجَدْنا أكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ قال : القرون الماضية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : وَما وَجَدْنا لاِءَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ . . . الاَية ، قال : القرون الماضية وعهده الذي أخذه من بني آدم في ظهر آدم ولم يفوا به .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب : وَما وَجَدْنا لاِءَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ قال : في الميثاق الذي أخذه في ظهر آدم عليه السلام .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَما وَجَدْنا لاِءَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإنْ وَجَدْنا أكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ وذلك أن الله إنما أهلك القُرى لأنهم لم يكونوا حفظوا ما أوصاهم به .
{ وما وجدنا لأكثرهم } لأكثر الناس ، والآية اعتراض أو لأكثر الأمم المذكورين . { من عهد } من وفاء عهد ، فإن أكثرهم نقضوا ما عهد الله إليهم في الإيمان والتقوى بإنزال الآيات ونصب الحجج ، أو ما عهدوا إليه حين كانوا في ضرر مخافة مثل { لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين } { وإن وجدنا أكثرهم } أي علمناهم . { لفاسقين } من وجدت زيدا ذا الحفاظ لدخول أن المخففة واللام الفارقة ، وذلك لا يسوغ إلا في المبتدأ والخبر والأفعال الداخلة عليهما ، وعند الكوفيين إن للنفي واللام بمعنى إلا .