ثم استمر تعالى يعدد معايبهم ، انتصارا لقدحهم في عباده المؤمنين ، فقال : { وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ ْ } أي : من اليهود { يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ْ } أي : يحرصون ، ويبادرون المعاصي المتعلقة في حق الخالق والعدوان على المخلوقين .
{ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ْ } الذي هو الحرام . فلم يكتف بمجرد الإخبار أنهم يفعلون ذلك ، حتى أخبر أنهم يسارعون فيه ، وهذا يدل على خبثهم وشرهم ، وأن أنفسهم مجبولة على حب المعاصي والظلم . هذا وهم يدعون لأنفسهم المقامات العالية . { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ْ } وهذا في غاية الذم لهم والقدح فيهم .
ثم حكى - سبحانه - لونا آخر من رذائلهم فقال : { وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم والعدوان وَأَكْلِهِمُ السحت } .
والرؤية في قوله : { وترى } بصرية .
والإِثم : هو كل قول أو عمل لا يرضاه الله - تعالى - .
والعدوان : مجاوزة الحد في الظلم والتعدي . والسحت : هو المال الحرام كالرشوة وغيرها .
أي : وترى - أيها الرسول الكريم أو أيها السامع - كثيرا من هؤلاء اليهود ، يسارعون في ارتكاب الآثام وفي التعدي والظلم وأكل المال الحرام بدون تردد أو تريث . والتعبير بقوله : { وترى } يفيد أن ارتكابهم لهذه المنكرات لم يكن خافيا أو مستوراً ، وإنما هم يرتكبونها مجاهرة وعلانية ، لأن فضيلة الحياء قد نضبت من جوههم .
والمسارعة في الشيء : المبادرة إليه بسرعة وخفة ونشاط ، وأكثر استعمالها في الخير كما قال - تعالى - { أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات } { نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات } وقد استعملت هنا في مسارعتهم في الإِثم والعدوان وأكلهم السحت ، للإِشارة إلى أنهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات وكأنهم محقون فيها .
والتعدية بحرف { في } تؤذن بأنهم مغمورون في الآثام ؛ وأنهم ينتقلون فيها في حال إلى حال أخرى شر منها ، حتى لكأن السير في طريق الحق والصدق والفضيلة صار غير مألوف عندهم .
وقوله : { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } تذييل قصد به تقبيح أعمالهم التي يأباها الدين والخلق الكريم .
أي : لبئس شيئا كانوا يعملونه هذه المنكرات التي منها مسارعتهم في الإِثم والعدوان وأكلهم السحت .
وهذه الجملة هي حكم من الله - تعالى - عليهم بذم أعمالهم . وقد جمع - سبحانه - في حكمه بين صيغة الماضي { كانوا } وصيغة المضارع { يعملون } للإِشارة إلى أن هذا العمل القبيح كان منهم في الماضي ، وأنهم قد استمروا عليه في حاضرهم ومستقبلهم بدون توبة أو ندم .
وقد أكد - سبحانه - هذا الحكم بالقسم ، وباللام الموطئة للقسم ، وبكلمة بئس الدالة على شدة الذم . أي : أقسم لبئس العمل الذي كان هؤلاء يعملونه من مسارعتهم في الإِثم والعدوان وأكلهم السحت .
ويمضي السياق يرسم حركاتهم كأنها منظورة تشهد وتلحظ من خلال التعبير :
( وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان ، وأكلهم السحت . لبئس ما كانوا يعملون )
والمسارعة مفاعلة تصور القوم كأنما يتسابقون تسابقا في الإثم والعدوان ، وأكل الحرام . وهي صورة ترسم للتبشيع والتشنيع ، ولكنها تصور حالة من حالات النفوس والجماعات حين يستشري فيها الفساد ؛ وتسقط القيم ؛ ويسيطر الشر . . وإن الإنسان لينظر إلى المجتمعات التي انتهت إلى مثل هذه الحال ، فيرى كأنما كل من فيها يتسابقون إلى الشر . . إلى الإثم والعدوان ، قويهم وضعيفهم سواء . . فالإثم والعدوان - في المجتمعات الهابطة الفاسدة - لا يقتصران على الأقوياء ؛ بل يرتكبهما كذلك الضعفاء . . فحتى هؤلاء ينساقون في تيار الإثم . وحتى هؤلاء يملكون الاعتداء ؛ إنهم لا يملكون الاعتداء على الأقوياء طبعا . ولكن يعتدي بعضهم على بعض . ويعتدون على حرمات الله . لأنها هي التي تكون في المجتمعات الفاسدة الحمى المستباح الذي لا حارس له من حاكم ولا محكوم ؛ فالإثم والعدوان طابع المجتمع حين يفسد ؛ والمسارعة فيهما عمل هذه المجتمعات !
وكذلك كان مجتمع يهود في تلك الأيام . . وكذلك أكلهم للحرام . . فأكل الحرام كذلك سمة يهود في كل آن !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَىَ كَثِيراً مّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وترى يا محمد كثيرا من هؤلاء اليهود الذين قصصت عليك نبأهم من بني إسرائيل يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ والعُدْوَانِ يقول : يعجلون بمواقعة الإثم . وقيل : إن الإثم في هذا الموضع معنىّ به الكفر .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : وَتَرَى كَثِيرا مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالعُدوَانِ قال : الإثم : الكفر .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَتَرى كَثِيرا مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالعُدْوَانِ وكان هذا في حُكّام اليهود بين أيديكم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : يُسارِعُونَ فِي الإثْمِ والعُدْوَانِ قال : هؤلاء اليهود لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهاهُمْ الرّبّانِيّونَ . . . إلى قوله : لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ قال : يصنعون ويعملون واحد . قال : لهؤلاء حين لم يُنْهُوا ، كما قال لهؤلاء حين عملوا .
قال : وهذا القول الذي ذكرناه عن السديّ وإن كان قولاً غير مدفوع جواز صحته ، فإن الذي هو أولى بتأويل الكلام أن يكون القوم موصوفين بأنهم يسارعون في جميع معاصي الله لا يتحاشَوْن من شيء منها لا من كفر ولا من غيره لأن الله تعالى ذكره عمّ في وصفهم بما وصفهم به من أنهم يسارعون في الإثم والعدوان من غير أن يخصّ بذلك إثما دون إثم . وأما العدوان ، فإنه مجاوزة الحدّ الذي حدّه الله لهم في كلّ ما حدّه لهم . وتأويل ذلك أن هؤلاء اليهود الذين وصفهم في هذه الاَيات بما وصفهم به تعالى ذكره ، يسارع كثير منهم في معاصي الله وخلاف أمره ، ويتعدّون حدوده التي حدّ لهم فيما أحلّ لهم وحرّم عليهم في أكلهم السّحْت ، وذلك الرشوة التي يأخذونها من الناس على الحكم بخلاف حكم الله فيهم . يقول الله تعالى ذكره : لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يقول : أقسم لبئس العمل ما كان هؤلاء اليهود يعملون في مسارعتهم في الإثم والعدوان وأكلهم السحت .
والرؤية في قوله : { وترى } بصرية ، أي أنّ حالهم في ذلك بحيث لا يخفى على أحد . والخطاب لكّل من يسمع .
وتقدّم معنى { يسارعون } عند قوله : { لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } [ النساء : 41 ] .
والإثم : المفاسد من قولٍ وعملٍ ، أريد به هنا الكذب ، كما دلّ عليه قوله : { عن قولهم الإثم } . والعدوانُ : الظلم ، والمراد به الاعتداء علي المسلمين إن استطاعوه .
والسحت تقدّم في قوله : { سمّاعون للكذب أكّالون للسحت } [ المائدة : 42 ] .