قوله تعالى : { قال الذين حق عليهم القول } وجب عليهم العذاب وهم رؤوس الضلالة ، { ربنا هؤلاء الذين أغوينا } أي : دعوناهم إلى الغي ، وهم الأتباع ، { أغويناهم كما غوينا } أضللناهم كما ضللنا ، { تبرأنا إليك } منهم ، { ما كانوا إيانا يعبدون } وبرئ بعضهم من بعض وصاروا أعداء ، كما قال تعالى : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو } .
ولهذا { قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } الرؤساء والقادة ، في الكفر والشر ، مقرين بغوايتهم وإغوائهم : { رَبَّنَا هَؤُلَاءِ } التابعون { الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } أي : كلنا قد اشترك في الغواية ، وحق عليه كلمة العذاب .
{ تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ } من عبادتهم ، أي : نحن برآء منهم ومن عملهم . { مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } وإنما كانوا يعبدون الشياطين .
والمراد بالذين حق عليهم القول فى قوله - تعالى - : { قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول . . . } رؤساؤهم فى الكفر ، ودعاتهم إليه كالشياطين ، ومن يشبهونهم فى التحريض على الضلال .
أى قال : رؤساؤهم ودعاتهم إلى الكفر ، الذين ثبت عليهم العذاب بسبب إصرارهم على الفسوق والجحود .
{ رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ } أى : يا ربنا هؤلاء هم أتباعنا الذين أضللناهم .
{ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } أى : دعوناهم إلى الضلالة التى كنا عليها فأطاعونا فيما دعوناهم إليه .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : قوله : { هؤلاء } مبتدأ ، و { الذين أَغْوَيْنَآ } صفته ، والراجع إلى الموصول محذوف و { أَغْوَيْنَاهُمْ } الخبر . والكاف صفة لمصدر محذوف تقديره : أغويناهم فغووا غيا مثل ما غوينا ، يعنون أنا لم نغو إلا باختيارنا ، لا أن فوقنا مغوين أغوونا بقسر منهم وإلجاء . أودعونا إلى الغى وسولوه لنا ، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم ، لأن إغواءنا لهم ، لم يكن إلا وسوسة وتسويلا . لا قسرا أو إلجاء " فلا فرق إذا بين غينا وغيهم . . " .
وقوله - سبحانه - { تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } من كلام الرؤساء والشياطين ، فهو مقرر لما قبله ، ومؤكد له .
أى : تبرأنا إليك منهم ، ومن ادعائهم أننا أجبرناهم على الضلالة والغواية ، والحق أنهم ما كانوا يعبدوننا ، بل كانوا يعبدون ما سولته لهم أهواؤهم وشهواتهم الباطلة .
فالآية الكريمة تحكى تبرؤ رءوس الكفر من أتباعهم يوم القيامة ، ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ . . } وقوله - سبحانه - : { واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً }
ومن ثم لا يجيب المسؤولون عن السؤال ، فليس المقصود به هو الجواب ! إنما يحاولون أن يتبرأوا من جريرة إغوائهم لمن وراءهم ، وصدهم عن هدى الله ، كما كان يفعل كبراء قريش مع الناس خلفهم ، فيقولون :
( ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا ؛ تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ) !
ربنا إننا لم نغوهم قسرا ، فما كان لنا من سلطان على قلوبهم ؛ إنما هم وقعوا في الغواية عن رضى منهم واختيار ، كما وقعنا نحن في الغواية دون إجبار . ( تبرأنا إليك )من جريمة إغوائهم . ( ما كانوا إيانا يعبدون )إنما كانوا يعبدون أصناما وأوثانا وخلقا من خلقك ، ولم نجعل أنفسنا لهم آلهة ، ولم يتوجهوا إلينا نحن بالعبادة !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الّذِينَ حَقّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبّنَا هََؤُلآءِ الّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوَاْ إِيّانَا يَعْبُدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ويوم ينادي ربّ العزّة الذين أشركوا به الأنداد والأوثان في الدنيا ، فيقول لهم : أيْنَ شُرَكائِيَ الّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم لي في الدنيا شركاء ؟ قالَ الّذِينَ حَقّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ يقول : قال الذين وجب عليهم غضب الله ولعنته ، وهم الشياطين الذين كانوا يُغْوُون بني آدم : رَبّنا هَؤلاءِ الّذِينَ أغْوَيْنا ، أغْوَيْناهُمْ كمَا غَوَيْنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله هَؤُلاءِ الّذِينَ أغْوَيْنا ، أغْوَيْناهُمْ كمَا غَوَيْنا قال : هم الشياطين .
وقوله : تَبرّأنا إلَيْكَ يقول : تبرأنا من وَلايتهم ونُصْرتهم إليك ما كانُوا إِيّانَا يَعْبُدُونَ : يقول : لم يكونوا يعبدوننا .
قال القاضي أبو محمد : ولما كان هذا السؤال مسكتاً له ، مهيناً فكأنه لا يتعلق بجمهور الكفرة ، بل بالمغوين لهم والأعيان ، والرؤوس منهم وبالشياطين المغوين فكأن هذه الصنيفة المغوية إنما أتت الكفرة على علم بأن القول عليها متحقق وكلمة العذاب ماضية لكنهم طمعوا في التبري من كل أولئك الكفرة الأتباع فقالوا : { ربنا هؤلاء } إنما أضللناهم كما ضللنا نحن باجتهاد لنا ولهم ، وأرادوا هم اتباعنا ، وأحبوا الكفر كما أحببناه . فنحن نتبرأ إليك منهم وهم لم يعبدونا إنما عبدوا غيرنا .
قال القاضي أبو محمد : فهذا التوقيف يعم جميع الكفرة ، والمجيبون هم كل مغو داع إلى الكفر من الشياطين ومن الإنس الرؤساء ، والعرفاء والسادة في الكفر ، وقرأ الجمهور «غوَينا » بفتح الواو ، يقال غوى الرجل يغوى بكسر الواو ، وروي عن ابن عامر وعاصم «غوِينا » بكسر الواو .