{ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ْ } حيث يستدرجهم من حيث لا يعلمون ، ويملي لهم ، إن كيده متين ، { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ْ } فإن من أمن من عذاب اللّه ، فهو لم{[320]} يصدق بالجزاء على الأعمال ، ولا آمن بالرسل حقيقة الإيمان .
وهذه الآية الكريمة فيها من التخويف البليغ ، على أن العبد لا ينبغي له أن يكون آمنا على ما معه من الإيمان .
بل لا يزال خائفا وجلا أن يبتلى ببلية تسلب ما معه من الإيمان ، وأن لا يزال داعيا بقوله : { يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ْ } وأن يعمل ويسعى ، في كل سبب يخلصه من الشر ، عند وقوع الفتن ، فإن العبد - ولو بلغت به الحال ما بلغت - فليس على يقين من السلامة .
وقوله : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله } تكرير لمجموع الإنكارين السابقين ، جمعا بين التفريق قصدا إلى زيادة التحذير والإنذار .
والمكر في الأصل الخداع ، ويطلق على الستر يقال : مكر الليل أى : ستر بظلمته ما هو فيه ، وإذا نسب إليه - سبحانه - فالمراد به استدراجه للعبد العاصى حتى يهلكه في غفلته تشبيها لذلك بالخداع .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فلم رجع فعطف بالفاء قوله : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله } ؟
قلت : هو تكرير لقوله : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى } ومكر الله : استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر ولاستدراجه ، فعلى العاقل أن يكون في خوفه من مكر الله كالمحارب الذي يخاف من عدوه الكمين والبيات والغيلة . وعن الربيع بن خثعم أن ابنته قالت له : مالى أراك لا تنام والناس ينامون ؟ فقال : با بنتاه إن إباك يخاف البيات . أراد قوله : { أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً } .
والمعنى : أفأمنوا مكر الله وتدبيره الخفى الذي لا يعلمه البشر فغفلوا عن قدرتنا على إنزال العذاب بهم بياتاً أو ضحوة ؟ لئن كانوا كذلك فهم بلا ريب عن الصراط لناكبون ، وعن سنن الله في خلقه غافلون ، فإنه { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } أى : إلا القوم الذين خسروا أنفسهم وعقولهم ، ولم يستفيدوا شيئا من أنواع العبر والعظات التي بثها الله في أنحاء هذا الكون .
هذا ، ويرى الإمام الشافعى وأتباعه أن الأمن من مكر الله كبيرة من الكبائر ، لأنه استرسال في المعاصى اتكالا على عفو الله .
وقال الحنفية إن الأمن من مكر الله كفر كاليأس ، لقوله - تعالى - : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون } وقوله : { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } .
ثم بين - سبحانه - أن من الواجب على الأحياء الذين يرثون الأرض من أهلها الذاهبين المهلكين ، الذين أهلكتهم ذنوبهم ، وجنت عليهم غفلتهمن وعوقبوا على استهتارهم وغرورهم من الواجب على هؤلاء الأحياء أن يعتبروا ويتعظوا وسحنوا القول والعمل حتى ينجوا من العقوبات .
وتدبيره الخفي المغيب على البشر . . ليتقوه ويحذروه . .
( فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ) . .
فما وراء الأمن والغفلة والاستهتار إلا الخسار . وما يغفل عن مكر الله هكذا إلا الذين يستحقون هذا الخسار ! أفأمنوا مكر الله ؛ وهم يرثون الأرض من بعد أهلها الذاهبين ، الذين هلكوا بذنوبهم ، وجنت عليهم غفلتهم ؟ أما كانت مصارع الغابرين تهديهم وتنير لهم طريقهم ؟
يقول تعالى ذكره : أفأمن يا محمد هؤلاء الذين يكذّبون الله ورسوله ويجحدون آياته ، استدراج الله إياهم بما أنعم به عليهم في دنياهم من صحة الأبدان ورخاء العيش ، كما استدرج الذين قصّ عليهم قصصهم من الأمم قبلهم ، فإن مكر الله لا يأمنه ، يقول : لا يأمن ذلك أن يكون استدراجا مع مقامهم على كفرهم وإصرارهم على معصيتهم إلاّ القوم الخاسرون وهم الهالكون .
المعنى : { أفأمنوا } هذه أو هذا كما تقول : أجاء زيد أو عمرو وليست هذه أو التي هي للإضراب عن الأول كما تقول : أنا أقوم أو أجلس وأنت تقصد الإضراب عن القيام والإثبات للجلوس وتقريره ، وقولنا التي هي لأحد الشيئين يعم الإباحة والتخيير كقولك : جالس الحسن أو ابن سيرين أو قولك : جالس الحسن أو جالس ابن سيرين ، وقوله { يلعبون } يريد في غاية الغفلة والإعراض .
و { مكر الله } هي إضافة مخلوق إلى الخالق كما تقول : ناقة الله وبيت الله ، والمراد فعل يعاقب به مكرة الكفار ، وأضيف إلى الله لما كان عقوبة الذنب فإن العرب تسمي العقوبة على أي وجه كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة ، وهذا نص في قوله { ومكروا ومكر الله } ، وهذا الموضع أيضاً كان كفرهم بعد الرسالة وظهور دعوة الله مكر وخديعة واستخفاف ، وقيل عومل في مثل هذا وغيره اللفظ دون المعنى في مثل قوله { الله يستهزىء بهم } و «أن الله لا يمل حتى تملوا » وغير ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.