قوله تعالى : { ويعلم } قرأ أهل المدينة والشام : { ويعلم } برفع الميم على الاستئناف كقوله عز وجل في سورة براءة : { ويتوب الله على من يشاء } ( التوبة-15 ) ، وقرأ الآخرون بالنصب على الصرف ، والجزم إذا صرف عنه معطوفه نصب ، وهو كقوله تعالى : { ويعلم الصابرين } ( آل عمران-142 ) ، صرف من حال الجزم إلى النصب استخفافاً وكراهية لتوالي الجزم . { الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص } أي : يعلم الذين يكذبون بالقرآن إذا صاروا إلى الله بعد البعث أن لا مهرب لهم من عذاب الله .
ثم بين - سبحانه - أن علمه شامل لكل شئ فقال : { وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } والمحيص : المهر والمنجى من العذاب . يقال : خاص فلان عن الشئ ، إذا حاول الفرار منه .
وقراءة الجمهور بنصب " يعلم " على أنه منصوب على فعل مقدر . أى : فعل ما فعل - سبحانه - لينتقم من الظالمين ، وليعلم الذين يجادلون فى آياتنا الدالة على وحدنيتنا وقدرتنا . . أنهم لا محيص لهم ولا مهرب من عذابنا ، بسبب جدالهم بالباطل ليدحضوا به الحق .
وقوله : وَيَعْلَمَ الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا يقول جلّ ثناؤه : ويعلم الذين يخاصمون رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من المشركين في آياته وعبره وأدلته على توحيده .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة «وَيَعْلَمُ الّذِينَ » رفعا على الاستئناف ، كما قال في سورة براءة : وَيَتُوبُ اللّهُ على مَنْ يَشاءُ وقرأته قرّاء الكوفة والبصرة وَيَعْلَمَ الّذِينَ نصبا كما قال في سورة آل عمران وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ على الصرف وكما قال النابغة :
فإنْ يَهْلِكْ أبو قابُوسَ يَهْلِكْ *** رَبِيعُ النّاسِ والشّهْرُ الحَرَامُ
وَنُمْسِكَ بَعْدَهُ بذَناب عَيْشٍ *** أجَبّ الظّهْرِ لَهُ سَنامُ
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان ولغتان معروفتان ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ يقول تعالى ذكره : ما لهم من محيد من عقاب الله إذا عاقبهم على ذنوبهم ، وكفرهم به ، ولا لهم منه ملجأ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ ، قوله : ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ : ما لهم من ملجأ .
{ ويعلم الذين يجادلون في آياتنا } عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم { ويعلم } ، أو على الجزاء ونصب نصب الواقع جوابا للأشياء الستة لأنه أيضا غير واجب ، وقرأ نافع وابن عامر بالرفع على الاستئناف ، وقرئ بالجزم عطفا على { يعف } فيكون المعنى ويجمع بين إهلاك قوم وإنجاء قوم وتحذير آخرين . { ما لهم من محيص } محيد من العذاب والجملة معلق عنها الفعل .
وقرأ نافع وابن عامر والأعرج وأبو جعفر وشيبة : «ويعلمُ » بالرفع على القطع والاستئناف ، وحسن ذلك إذا جاء بعد الجزاء . وقرأ الباقون والجمهور : «ويعلمَ » بالنصب على تقدير : أن ، وهذه الواو نحو التي يسميها الكوفيون واو الصرف{[10153]} ، لأن حقيقة واو الصرف هي التي يريد بها عطف فعل على اسم ، فيقدر أن لتكون مع الفعل بتأويل المصدر فيحسن عطفه على اسم{[10154]} ، وذلك نحو قول الشاعر{[10155]} : [ الطويل ]
تقضي لبانات ويسأم سائم . . . فكأنه أراد : وسآمة سائم ، فقدر : وأن يسأم لتكون ذلك بتأويل المصدر الذي هو سآمة قال أبو علي : حسن النصب إذ كان قبله شرط وجزاء ، وكل واحد منهما غير واجب وقوله تعالى : { ما لهم من محيص } هو معلموهم الذي أراد أن يعلمه المجادلون في آياته عز وجل . والمحيص : المنجي وموضوع الروغان ، يقال حاص إذا راغ ، وفي حديث هرقل : فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب{[10156]} .
{ وَيَعْلَمَ الذين يجادلون فى ءاياتنا مَا لَهُمْ من محيص } .
قرأ نافع وابن عامر ويعقوب برفع { ويعلمُ } على أنه كلام مستأنف . وقرأه الباقون بالنصب .
فأما الاستئناف على قراءة نافع وابن عامر ويعقوب فمعناه أنه كلام أنُف لا ارتباط له بما قبله ، وذلك تهديد للمشركين بأنهم لا محيص لهم من عذاب الله لأنه لما قال : { ومن آياته الجواري في البحر } [ الشورى : 32 ] صار المعنى : ومن آيات انفراده بالإلهية الجواري في البحر . والمشركون يجادلون في دلائل الوحدانية بالإعْراض والانصراف عن سماعها فهددهم الله بأن أعلمهم أنهم لا محيص لهم ، أي من عذابه ، فحُذف متعلق المحيص إبهاماً له تهويلاً للتهديد لتذهب النفس كل مذهب ممكن فيكون قوله : ويعلم الذين يجادلون } خبَراً مراداً به الإنشاء والطلب فهو في قوة : وليعلمْ الذين يجادلون ، أو اعلموا يا من يجادلون ، وليس خبراً عنهم لأنهم لا يؤمنون بذلك حتى يعلموه .
وأما قراءة النصب فهي عند سيبويه وجمهور النحاة على العطف على فعللٍ مدخول للام التعليل ، وتضمَّن ( أنْ ) بعده . والتقدير : لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون الخ . وسموا هذه الواو واو الصَّرفْ لأنها تصرف ما بعدها عن أن يكون معطوفاً على ما قبلها ، إلى أن يكون معطوفاً على فعل متصيَّد من الكلام ، وهذا قول سيبويه في باب ما يرتفع بين الجزمين وينجزم بينهما ، وتبعه في « الكشاف » ، وذهب الزجاج إلى أن الواو واو المعية التي ينصب الفعل المضارع بعدها ب ( أن ) مضمرة .
ويجوز أن يجعل الخبر مستعملاً في مقاربة المخبر به كقولهم : قد قامت الصلاة ، فلما كان علمهم بذلك يوشك أن يَحصل نُزّل منزلة الحاصل فأخبر عنهم به ، وعلى هذا الوجه يكون إنذاراً بعقاب يحصل لهم قريب وهو عذاب السيف والأسْر يوم بدر .
وذكر فعل { يعلَم } للتنويه والاعتناء بالخبر كقوله تعالى : { واعْلموا أنكم ملاقُوه } في سورة البقرة ( 223 ) ، وقوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } في سورة الأنفال ( 41 ) ، وقول النبي حين رأى أبا مسعود الأنصاري يضرب غلاماً له فناداه : اعْلَم أبَا مسعود اعْلم أبَا مسعود ، قال أبو مسعود : فالتفتُّ فإذا هو رسول الله فإذا هو يقول : اعلَم أبا مسعود . فألقيت السوط من يدي ، فقال لي : إن الله أقدر عليك منكَ على هذا الغلام رواه مسلم أواخر كتاب الإيمان . وتقدم معنى الذين يجادلون في آياتنا } في هذه السورة .
و { مَا } نافية ، وهي معلِّقة لفعل { يعلم } عن نصب المفعلوين .
والمَحِيص : مصدر ميمي من حاص ، إذا أخذ في الفرار ومَال في سَيره ، وفي حديث أبي سفيان في وصْف مجلس هرقل « فحاصُوا حَيْصة حُمر الوحش وأغلقت الأبواب » . والمعنى : ما لهم من فرار ومهرب من لقاء الله . والمراد : ما لهم من محيد ولا ملجأ . وتقدم في قوله تعالى : { ولا يجدون عنها محيصاً } في سورة النساء ( 121 ) .