اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٖ} (35)

قوله تعالى : { وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } قرأ نافع وابن عامر برفعه والباقون بنصبه{[49398]} . وقرئ : بجزمه أيضاً{[49399]} . فأما الرفع فواضح جداً ، وهو يحتمل وجهين : الاستئناف بجملة اسمية ، فتقدر الفعل مبتدأ أي وهو يعلم الذين و«الذين »{[49400]} على الأول فاعل ، وعلى الثاني مفعول . وأما قراءة النصب ففيها أوجه :

أحدها : قال الزجاج : على الصرف قال : ومعنى الصرف صرف العطف عن اللفظ إلى العطف على المعنى قال : وذلك أنه لم يحسن عطف «ويعلم » مجزوماً على ما قبله ؛ إذ يكون المعنى إن يشأ يعلم عدل إلى العطف على مصدر الفعل الذي قبله ، ولا يتأتى ذلك إلا بإضمار «أن » ليكون مع الفعل في تأويل اسم{[49401]} . وقال البغوي : قرئ بالنصب على الصَّرف والجزم إذا صرف عنه معطوفه نصب كقوله : { وَيَعْلَمَ الصابرين } [ آل عمران : 142 ] نقل من حال الجزم إلى النصب استخفافاً وكراهية توالي الجزم{[49402]} .

الثاني : قول الكوفيون : إنه{[49403]} منصوب بواو الصرف يعنون أن الواو نفسها هي الناصبة ، لا بإضمار «أنْ » وتقدم معنى الصَّرف .

الثالث : قال الفارسي{[49404]} ونقله الزمخشري{[49405]} عن الزجاج إن النصب على إضمار «إنْ » ؛ لأن قبلها جزاءً تقول : ما تصنع أصنع ، وأكرمك وإن شئت : وأكرمك على : وأنا أكرمك ، وإن شئت : وأكرمك جزماً .

قال الزمخشري : وفيه نظر ؛ لما أورده سيبويه في كتابه قال : واعلم أنَّ النَّصب بالواو والفاء في قوله : إن تَأْتِنِي آتِكَ ، وأُعطِيكَ ضعيفٌ ، وهو نحو من قوله :

4386 . . . . . . . . . . . . . *** وَأَلْحَقَ بِالحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا{[49406]}

فهذا ( لا ){[49407]} يجوز ، لأنه ليس بحَدِّ الكلام ولا وجه ، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً ؛ لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل ، فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعفه{[49408]} . قال الزمخشري : ولا يجوز أن تحصل القراءة المستفيضة على وجةٍ ليس بحدِّ الكلام ولا وجهه ، ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه .

وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة{[49409]} .

الرابع : أن ينتصب عطفاً على تعليل محذوف تقديره : لينتقم منهم ويعلم الذين ونحوه في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ومنه : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } [ مريم : 21 ] { وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى } [ الجاثية : 22 ] قاله الزمخشري{[49410]} . قال أبو حيان : ويبعد تقديره : لينتقم منهم لأنه مرتب على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن «لينتقم منهم » وأما الآتيان فيمكن أن تكونت اللام متعلقةً بفعل محذوف تقديره «وَلِنجْعَلَهُ آيَةً فَعَلنَ ذلك ، ولتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ فَعَلْنَا ذَلِكَ » وهو كثيراً ( ما ){[49411]} يقدر هذا الفعل مع هذه اللام إذا لم يكن فعل يتعلق به{[49412]} . وقال شهاب الدين : بل يحسن تقدير : لينتقم ؛ لأنه يعود في المعنى على إهلاك قوم المترتب على الشرط{[49413]} .

وأما الجزم فقال الزمخشري :

فإن قلت كيف يصح المعنى على جزم «وَيَعْلَمْ » ؟ !

قلت : كأنه قيل{[49414]} : أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور إهلاك قوم ونجاة قوم وتحذير آخرين{[49415]} . وإذا قرئ بالجزم فيكسر الميم لالتقاء الساكنين .

وقوله : { مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } في محل نصب ، بسدها مسدَّ مفعولي{[49416]} العلم .

فصل

المعنى{[49417]} وليعلم الذين يجادلون أي يكذبون بالقرآن إذا صاروا إلى الله عزّ وجلّ بعد البعث لا مهرب لهم من عذاب الله{[49418]} ، كما أنه لا مخلص لهم إذا وُقصت السفن وإذا عصفت الرياح ، ويكون ذلك سبباً لاعترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلا الله{[49419]} .


[49398]:قراءة متواترة أوردها صاحب الإتحاف 383 وكذا صاحب السبعة 581.
[49399]:قراءة شاذة لم ينسبها الزمخشري في كشافه 3/472 وانظر معاني القرآن للفراء 3/25 ونقلها القرطبي عن الفراء الذي قال: "ولو جزم "يعلم" جازم كان مصيبا". القرطبي 16/34.
[49400]:الدر 4/759.
[49401]:لم أجد هذا الرأي منسوبا للزجاج في: معاني القرآن وإعرابه عند هذه الآية ونسبه أبو شامة في: إبراز المعاني لأبي عبيد 675 وأبو حيان في البحر المحيط 7/521. ولقد مشى المؤلف وحذا حذو صاحب الدر المصون في نسبة هذا الرأي للزجاج. الدر المصون 4/759.
[49402]:ذكره في معالم التنزيل 6/126.
[49403]:قال ابن هشام في المغني: والواو الداخلة على المضارع المنصوب لعطفه على اسم صريح أو مؤول، فالأولى كقوله: "للبس عباءة وتقر عيني...البيت". والثاني: شرطه أن يتقدم الواو نفي أو طلب وسمى الكوفيون هذه الواو واو الصرف، وليس النصب بها خلافا لهم. وقال ابن هشام: والحق أن هذه واو العطف كما سيأتي. المغني 360: 361.
[49404]:الحجة 7/99 بلدية.
[49405]:الكشاف 3/472.
[49406]:عجز بيت من الوافر للمغيرة بن حبناء صدره: سأترك منزلي لبني تميم ............................... وفي المقتضب لأبي العباس: وألحق بالعراق، وشاهده: نصب الفعل أستريح بعد الفاء في غير جواب الأمر والنهي وشبههما وذلك لا يكون إلا في ضرورة فهو ضعيف كما قال سيبويه وانظر ابن يعيش 1/279، والخزانة 8/522، والكتاب 3/39 و92 والأشموني 3/305. والهمع 1/77 و2/10 و16 و73 والمقتضب 2/22 والإفصاح 184.
[49407]:سقطت من ب.
[49408]:الكتاب 2/342.
[49409]:الكشاف 3/472.
[49410]:الكشاف السابق.
[49411]:لفظ "ما" سقط من ب.
[49412]:انظر البحر المحيط 7/521.
[49413]:الدر المصون 4/760.
[49414]:في الكشاف كأنه قال.
[49415]:السابق.
[49416]:التبيان 1114.
[49417]:في ب يعلم.
[49418]:وانظر البغوي 6/126.
[49419]:الرازي 27/176.