الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٖ} (35)

" ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص " يعني الكفار ، أي إذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان أو بقيت السفن رواكد علموا أنه لا ملجأ له لهم سوى الله ، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم فيخلصون له العبادة ، وقد مضى هذا المعنى في غير موضع{[13521]} ومضى القول في ركوب البحر في " البقرة " {[13522]} وغيرها بما يغني عن إعادته . وقرأ نافع وابن عامر " ويعلم " بالرفع ، الباقون بالنصب . فالرفع على الاستئناف بعد الشرط والجزاء ، كقوله في سورة التوبة : " ويخزهم وينصركم عليهم " {[13523]} [ التوبة : 14 ] ثم قال : " ويتوب الله على من يشاء " [ التوبة : 15 ] رفعا . ونظيره في الكلام : إن تأتني آتك وينطلق عبد الله . أو على أنه خبر ابتداء محذوف . والنصب على الصرف ، كقوله تعالى : " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " {[13524]} [ آل عمران : 142 ]صرف من حال الجزم إلى النصب استخفافا كراهية لتوالي الجزم ، كقول النابغة :

فإن يهلك أبُو قابوسَ يَهْلِكْ *** ربيعُ الناس والشهرُ الحرام{[13525]}

ويمسك بعده بذِنَابِ عيشٍ *** أجبَّ الظهر ليس سَنَامُ{[13526]}

وهذا معنى قول الفراء ، قال : ولو جزم " ويعلم " جاز . وقال الزجاج : نصب على إضمار " أن " لأن قبلها جزما ، تقول : ما تصنع أصنع مثله وإن شئت قلت . وأكرمك بالجزم . وفي بعض المصاحف " وليعلم " . وهذا يدل على أن النصب بمعنى : وليعلم أو لأن يعلم . وقال أبو علي والمبرد : النصب بإضمار " أن " على أن يجعل الأول في تقدير المصدر ، أي ويكون منه عفو وأن يعلم فلما حمله . على الاسم أضمر أن ، كما تقول : إن تأتني وتعطيني أكرمك ، فتنصب تعطيني ، أي إن يكن منك إتيان وأن تعطيني . ومعنى " من محيص " أي من فرار ومهرب ، قاله قطرب . السدي : من ملجأ ، وهو مأخوذ من قولهم : حاص به البعير حيصة إذا رمى به . ومنه قولهم : فلان يحيص عن الحق أي يميل عنه .


[13521]:راجع ج 8 ص 325 و ج 13 ص 223.
[13522]:راجع ج 2 ص 195 طبعة ثانية.
[13523]:آية 14.
[13524]:آية 142 سورة آل عمران.
[13525]:أبو قابوس: كنيته النعمان بن المنذر، يريد أنه كان كالربيع في الخصب لمجتديه، وكالشهر الحرام لجاره، أي لا يوصل إلى من أجاره. والمعنى: إن يمت النعمان يذهب خير الدنيا لأنها كانت تعمر به وبجوده وعدله ونفعه للناس، ومن كان في ذمته وسلطانه فهو آمن على نفسه محقون الدم كما يأمن الناس في الشهر الحرام على أموالهم ودمائهم.
[13526]:ذناب كل شيء: عقبه ومؤخره. وأجب الظهر مقطوع السنام. يقول: إن مات بقينا في طرف عيش قد مضى صدره ومعظمه وختره، وقد بقي منه ذنبه.