الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٖ} (35)

قوله : { وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ } : قرأ نافعٌ وابنُ عامر برفعِه . والباقون بنصبِه . وقُرِئ بجزمِه أيضاً . فأمَّا الرفعُ فهو واضحٌ جداً ، وهو يحتملُ وجهين : الاستئنافَ بجملةٍ فعليةٍ ، والاستئنافَ بجملةٍ اسميةٍ ، فتُقَدِّرُ قبل الفعل مبتدأً أي : وهو يعلمُ الذين ، فالذين على الأول فاعلٌ ، وعلى الثاني مفعولٌ . فأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها أوجهٌ ، أحدُها : قال الزجَّاج : " على الصَّرْف " . قال : " ومعنى الصرفِ صَرْفُ العطف عن اللفظ إلى العطفِ على المعنى " . قال : " وذلك أنَّه لَمَّا لم يَحْسُنْ عطفُ " ويعلَمْ " مجزوماً على ما قبلَه إذ يكونُ المعنى : إنْ يَشَأْ/ يَعْلَمْ ، عُدِل إلى العطف على مصدرِ الفعلِ الذي قبلَه . ولا يتأتَّى ذلك إلاَّ بإضمار " أنْ " ليكونَ مع الفعلِ في تأويلِ اسم " .

الثاني : قولُ الكوفيين أنه منصوبٌ بواوِ الصرف . يَعْنُون أنَّ الواوَ نفسَها هي الناصبةُ لا بإضمارِ " أنْ " ، وتقدَّم معنى الصرف .

الثالث : قال الفارسيُّ - ونقله الزمخشري عن الزجاج - إن النصب على إضمار " أنْ " ؛ لأنَّ قبلها جزاءً تقول : " ما تصنعْ أصنعْ وأكرمَك " وإنْ شِئْتَ : وأكرمُك ، على وأنا أكرِمُك ، وإنْ شِئْتَ " وأكرمْك " جزْماً . قال الزمخشري : " وفيه نظرٌ ؛ لِما أَوْردَه سيبويه في كتابه " قال : " واعلَمْ أنَّ النصبَ بالواوِ والفاء في قوله : " إنْ تَأْتِني آتِك وأعطيكَ " ضعيفٌ ، وهو نحوٌ مِنْ قولِه :

3978 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وأَلْحَقُ بالحجازِ فَأَسْتريحا

فهذا لا يجوزُ ، لأنه ليس بحَدِّ الكلامِ ولا وجهِه ، إلاَّ أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً ؛ لأنه ليس بواجبٍ أنَّه يفعلُ ، إلاَّ أَنْ يكونَ من الأولِ فِعْلٌ ، فلمَّا ضارَعَ الذي لا يُوْجِبُهُ كالاستفهام ونحوِه أجازوا فيه هذا على ضَعْفِه " . قال الزمخشري : " ولا يجوزُ أَنْ تُحْمَلَ القراءةُ المستفيضةُ على وجهٍ ليس بحَدِّ الكلامِ ولا وجهِه ، ولو كانَتْ من هذا البابِ لَما أَخْلَى سيبويه منها كتابَه ، وقد ذَكَرَ نظائرَها مِن الآياتِ المُشْكِلة " .

الرابع : أَنْ ينتصِبَ عطفاً على تعليلٍ محذوفٍ تقديرُه : لينتقمَ منهم ويعلمَ الذين ، ونحوُه في العطفِ على التعليلِ المحذوفِ غيرُ عزيزٍ في القرآن . ومنه : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } [ مريم : 21 ] وخَلَق اللَّهُ السماواتِ والأرضَ بالحقِّ ، ولِتُجْزَى " قاله الزمخشري . قال الشيخ : " ويَبْعُدُ تقديرُه : لِيَنْتَقِمَ منهم ؛ لأنه تَرَتَّبَ على الشرطِ إهلاكُ قومٍ ونجاةُ قومٍ فلا يَحْسُنُ لينتَقِمَ منهم . وأمَّا الآيتان فيمكنُ أَنْ تكونَ اللامُ متعلقةً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : ولنجعلَه آيةً للناسِ فَعَلْنا ذلك ، ولُتْجزَى كلُّ نفسٍ فَعَلْنا ذلك ، وهو - كثيراً - يُقَدِّرُ هذا الفعل مع هذه اللامِ إذا لم يكنْ فعلٌ يتعلَّقُ به " . قلت : بل يَحْسُنُ تقديرُ " لينتقمَ " لأنَّه يعودُ في المعنى على إهلاكِ قومٍ المترتبِ على الشرط .

وأمَّا الجزمُ فقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : كيف يَصِحُّ المعنى على جزم " ويعلَمْ " ؟ قلت : كأنه قيل : إنْ يَشَأْ يَجْمَعْ بين ثلاثةِ أمور : إهلاكِ قومٍ ، ونجاةِ قومٍ ، وتحذيرِ آخرين " . وإذا قُرِئَ بالجزم فتُكْسَرُ الميمُ لالتقاءِ الساكنين .

قوله : { مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ مفعولَيْ العِلْم .