ثم يكرر - سبحانه - النهى للنبى صلى الله عليه وسلم عن طاعة كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم . .
فيقول : { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ . هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ . مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } .
وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآيات الكريمة ، نزلت فى الوليد بن المغيرة . . وقيل : إنها نزلت فى الأخنس بن شريق . .
والآيات الكريمة يشمل النهي فيها كل من هذه صفاته ، ويدخل فيها الوليد بن المغيرة ، والأخنس بن شريف . . دخولا أوليا .
أي : ولا تطع - أيها الرسول الكريم - كل من كان كثير الحلف بالباطل ، وكل من كان مهينا ، أي : حقيرا ذليلا وضيعا . من المهانة ، وهي القلة في الرأي والتمييز .
وقوله : { وَلا تُطِعْ كُلّ حَلاّفٍ مَهِينٍ } ولا تطع يا محمد كلّ ذي إكثار للحلف بالباطل مَهِين : وهو الضعيف . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . غير أن بعضهم وجه معنى المهين إلى الكذّاب ، وأحسبه فعل ذلك لأنه رأى أنه إذا وصف بالمهانة ، فإنما وصف بها لمهانة نفسه عليه ، وكذلك صفة الكذوب ، إنما يكذب لمهانة نفسه عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس { وَلا تُطِعْ كُلّ حَلاّف مَهِين } والمهين : الكذّاب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : حَلاّفٍ مَهِينٍ قال : ضعيف .
حدثنا بشر ، فقال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلا تُطِعْ كُلّ حَلاّفٍ مَهِينٍ } وهو الكثار في الشرّ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، في قوله : كُلّ حَلاّفٍ مَهِينٍ يقول : كلّ مكثار في الحلف مهين ضعيف .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سعيد ، عن الحسن وقتادة وَلا تُطِعْ كُلّ حَلاّفٍ مَهِينٍ قال : هو المِكثار في الشرّ .
إعادة فعل النهي عن الطاعة لمن هذه صفاتهم للاهتمام بهذا الأدب فلم يُكتفَ بدخول أصحاب هذه الأوصاف في عموم المكذبين ، ولا بتخصيصهم بالذكر بمجرد عطف الخاص على العام بأن يقال : ولا كلَّ خلاف ، بل جيء في جانبهم بصيغة نهي أخرى مماثلة للأولى .
وليفيد تسليط الوعيد الخاص وهو في مضمون قوله : { سَنَسِمُهُ على الخرطوم } [ القلم : 16 ] على أصحاب هذه الصفات الخاصة زيادة على وعيد المكذبين .
وقريب منه قول الحارث بن همام الشيباني :
أيا ابنَ زيَّابَةَ إِنْ تلْقَنِي *** لاَ تلْقَنِي في النعَم العازب
وتَلْقَنِي يَشْتَدُّ بي أجرد *** مُستقدِمُ البِرْكة كالراكـب
فلم يكتف بعطفٍ : ب ( بل ) أو ( لكنْ ) بأن يقول : بل تلقني يشتد بي أجرد ، أو لكن تلقني يشتد بي أجرد ، وعَدَل عن ذلك فأعاد فعل ( تلقني ) .
وكلمة { كلَّ } موضوعة لإفادة الشمول والإِحاطة لأفراد الاسم الذي تضاف هي إليه ، فهي هنا تفيد النهي العام عن طاعة كل فرد من أفراد أصحاب هذه الصفات التي أضيف إليها { كلّ } بالمباشرة وبالنعوت .
وقد وقعت كلمة { كلَّ } معمولة للفعل الداخلة عليه أداة النهي ولا يفهم منه أن النهي منصب إلى طاعة من اجتمعت فيه هذه الصفات بحيث لو أطاع بعض أصحاب هذه الصفات لم يكن مخالفاً للنهي إذ لا يخطر ذلك بالبال ولا يجري على أساليب الاستعمال ، بل المراد النهي عن طاعة كل موصوف بخصلة من هذه الخصال بَلْهَ من اجتمع له عِدَّةٌ منها .
وفي هذا ما يبطل ما أصَّلَه الشيخ عبد القاهر في « دلائل الإِعجاز » من الفرق بين أن تقع { كلَّ } في حيز النفي ، أو النهي فتفيد ثبوت الفعل أو الوصف لبعض مما أضيفت إليه { كلَّ } إن كانت { كلَّ } مسنداً إليها ، أو تفيد تعلق الفعل أو الوصف ببعض ما أضيفت إليه { كل } إن كانت معمولة للمنفيِّ أو المنهيّ عنه ، وبين أن تقع { كلّ } في غَير حَيّزِ النفي ، وجعَلَ رفْع لفظ ( كلُّه ) في قول أبي النجم :
قد أَصْبَحَتْ أُم الخيار تدّعي *** عليّ ذنباً كلُّه لم أصْنَع
متعيناً ، لأنه لو نصبه لأفاد تنصله من أن يكون صنع مجموع ما ادعته عليه من الذنوب ، فيصدق بأنه صنع بعض تلك الذنوب وهو لم يقصد ذلك كما صرحَ بإبطاله العلامةُ التفتزاني في « المطول » ، واستشهد للإِبطال بقوله تعالى : { والله لا يُحب كلّ كفار أثيم } [ البقرة : 276 ] وقوله : { ولا تطع كل حلاف مهين } .
وأجريت على المنهي عن الإِطاعة بهذه الصفات الذميمة ، لأن أصحابها ليسوا أهلاً لأن يطاعوا إذ لا ثقة بهم ولا يأمرون إلاّ بسوء .
قال جمع من المفسرين المراد بالحَلاّف المَهين : الوليد بن المغيرة ، وقال بعضهم : الأخنس بن شَريق ، وقال آخرون : الأسودُ بن عبد يغوث ، ومن المفسرين من قال المراد : أبو جهل ، وإنما عنوا أن المراد التعريض بواحد من هؤلاء ، وإلاّ فإن لفظ { كلّ } المفيدَ للعموم لا يسمح بأن يراد النهي عن واحد معين ، أما هؤلاء فلعل أربعتهم اشتركوا في معظم هذه الأوصاف فهم ممن أريد بالنهي عن إطاعته ومن كان على شاكلتهم من أمثالهم .
وليس المراد مَن جَمَع هذه الخلال بل من كانت له واحدة منها ، والصفة الكبيرة منها هي التكذيب بالقرآن التي خُتم بها قوله : { إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } [ القلم : 15 ] ، لكن الذي قال في القرآن إنه { أساطير الأولين } [ القلم : 15 ] هو الوليد بن المغيرة ، فهو الذي اختلق هذا البهتان في قصة معلومة ، فلما تلقف الآخَرون منه هذا البهتان وأُعجبوا به أخذوا يقولونه فكان جميعهم ممن يقوله ولذلك أسند الله إليهم هذا القول في آية { وقالوا أساطير الأولين } [ الفرقان : 5 ] .
وذُكرت عشر خلال من مذامّهم التي تخلقوا بها :
الأولى : { حَلاَّف } ، والحَلاف : المكثر من الأيْمَان على وُعودِه وأخباره ، وأحسب أنه أريد به الكناية عن عدم المبالاة بالكذب وبالأيمان الفاجرة فجعلت صيغة المبالغة كناية عن تعمد الحنث ، وإلاَّ لم يكن ذمه بهذه المثابة ، ومن المفسرين من جعل { مَهين } قيداً ل { حلافٍ } على جَعْل النهي عن طاعة صاحب الوصفين مجتمعين .
هذه خصلة ثانية وليست قيداً لصفة { حَلاّف } .
والمهين : بفتح الميم فَعيل من مَهُن بمعنى حَقُرَ وذَلّ ، فهو صفة مشبهة ، وفعله مَهُنَ بضم الهاء ، وميمه أصلية وياؤه زائدة ، وهو فعيل بمعنى فاعل ، أي لا تطع الفاجر الحقير . وقد يكون { مهين } هنا بمعنى ضعيف الرأي والتمييز ، وكل ذلك من المهانة .
و { مهين } : نعت ل { حَلاف } ، وكذلك بقية الصفات إلى { زنيم } [ القلم : 13 ] فهو نعت مستقل ، وبعضهم جعله قيداً ل { حَلاّف } وفَسر المهين بالكذاب أي في حلفه .