قوله تعالى : { فعقروا الناقة } ، قال الأزهري : العقر هو قطع عرقوب البعير ، ثم جعل النحر عقراً لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره .
قوله تعالى : { وعتوا عن أمر ربهم } ، والعتو الغلو في الباطل ، يقال : عتا يعتوا عتواً إذا استكبر ، والمعنى عصوا الله وتركوا أمره في الناقة ، وكذبوا نبيهم .
قوله تعالى : { وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا } ، أي : من العذاب .
{ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ } التي توعدهم إن مسوها بسوء أن يصيبهم عذاب أليم ، { وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } أي : قسوا عنه ، واستكبروا عن أمره الذي من عتا عنه أذاقه العذاب الشديد . لا جرم أحل اللّه بهم من النكال ما لم يحل بغيرهم { وَقَالُوا } مع هذه الأفعال متجرئين على اللّه ، معجزين له ، غير مبالين بما فعلوا ، بل مفتخرين بها : { يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } إن كنت من الصادقين من العذاب فقال : { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ }
ثم أتبع المستكبرون قولهم القبيح بفعل أقبح يتجلى في قوله - تعالى - عنهم : { فَعَقَرُواْ الناقة } أى : نحروها وأصل العقر : قطع عرقوب البعير ، ثم استعمل في النحر ، لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره .
أى : عقروا الناقة التي جعلها الله حجة لنبيه صالح - عليه السلام - والتى قال لهم صالح في شأنها : { وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
وأسند العقر إلى جميعهم لأنه كان برضاهم ، وإن لم يباشره إلا بعضهم ، ويقال للقبيلة الكبيرة أنتم فعلتم كذا مع أن الفاعل واحد منهم ، لكونه بين أظهرهم .
وقوله : { وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } أى : استكبروا عن امتثال أوامره واجتناب نواهيه . من العتو وهو النبو ، أى : الارتفاع عن الطاعة والتكبر عن الحق والغلو في الباطل . يقال : عتا يعتو عتيا ، إذا تجاوز الحد في الاستكبار . فهو عات وعتى .
وقد اختار القرآن كلمة { وَعَتَوْاْ } لإبراز ما كانوا عليه من تجبر وتبجح وغرور خلال اقترافهم للمعاصى والجرائم التي من أبرزها عقر الناقة ، فهم قد فعلوا ما فعلوا عن تعمد وإصرار على ارتكاب المنكر .
ثم لم يكتفوا بكل هذا ، بل قالوا لنبيهم في سفاهة وتطاول : { يَاصَالِحُ ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ المرسلين } .
نادوه باسمه تهوينا لشأنه ، وتعريضا لما يظنون من عجزه ؛ وقالوا له على سبيل تعجل العذاب الذي توعدهم به إذا استمروا في طغيانهم ائتنا بما توعدتنا به إن كنت صادقا في رسالتك .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَعَقَرُواْ النّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فعقرت ثمود الناقة التي جعلها الله لهم آية . وَعَتَوْا عَنْ أمْرِ رَبّهِمْ يقول : تكبروا وتجبروا عن اتباع الله ، واستعلَوْا عن الحقّ . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَعَتَوْا علوّا عن الحقّ لا يبصرونه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : عَتَوْا عَنْ أمْر رَبّهِمْ : علوّا في الباطل .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن مجاهد في قوله : وَعَتَوْا عَنْ أمْرِ رَبّهِمْ قال : عتوا في الباطل وتركوا الحقّ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَعَتَوْا عَنْ أمْرِ رَبّهِمْ قال : علوّا في الباطل .
وهو من قولهم : جبار عات : إذا كان عاليا في تجبره . وَقالُوا يا صَالِحُ ائْتِنا بِمَا تَعِدُنا يقول : قالوا : جئنا يا صالح بما تعدنا من عذاب الله ونقمته استعجالاً منهم للعذاب أنْ كُنْتَ مِنَ المُرْسَلِينَ يقول : إن كنت لله رسولاً إلينا ، فإن الله ينصر رسله على أعدائه . فعجل ذلك لهم كما استعجلوه ، يقول جلّ ثناؤه : فَأخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ فَأصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ .
قوله تعالى : { فعقروا } يقتضي بتشريكهم أجمعين في الضمير أن عقر الناقة كان على تمالؤ منهم وإصفاق وكذلك : روي أن قداراً لم يعقرها حتى كان يستشير الرجال والنساء والصبيان ، فلما أجمعوا تعاطى فعقر ، { وعتوا } معناه خشوا وصلبوا ولم يذعنوا للأمر والشرع وصمموا على تكذيبه واستعجلوا النقمة بقولهم { ائتنا بما تعدنا } وحسن الوعد في هذا الموضع لما تقيد بأنه عذاب ، قال أبو حاتم قرأ عيسى وعاصم أُيتنا بهمز وإشباع ضم ، وقرأ تخفيف الهمزة كأنها ياء في اللفظ أبو عمر والأعمش .
الفاء للتّعقيب لِحكاية قول الذين استكبروا : { إنّا بالذي آمنتم به كافرون } [ الأعراف : 76 ] ، أي قالوا ذلك فعقروا ، والتّعقيب في كلّ شيء بحسبه ، وذلك أنّهم حينَ قالوا ذلك كانوا قد صدعوا بالتّكذيب ، وصمّموا عليه ، وعجزوا عن المحاجة والاستدلال ، فعزموا على المصير إلى النّكاية والإغاظة لصالح عليه السّلام ومن آمنَ به ، ورسموا لابتداء عملهم أن يعتدوا على النّاقة التي جعلها صالح عليه السّلام لهم ، وأقامها بينَه وبينهم علامة موادعة ما داموا غير متعرّضين لها بسوء ، ومقصدهم من نيّتهم إهلاك النّاقة أن يزيلوا آية صالح عليه السّلام لئلا يزيد عدد المؤمنِين به ، لأنّ مشاهدة آية نبوءته سالمة بينهم تثير في نفوس كثير منهم الاستدلال على صدقه والاستئناس لذلك بسكوت كبرائهم وتقريرهم لها على مرعاها وشِربها ، ولأنّ في اعتدائهم عليها إيذاناً منهم بتحفزهم للإضرار بصالح عليه السّلام وبمن آمن به بعدَ ذلك وليُرُوا صالحاً عليه السّلام أنّهم مستخفّون بوعيده إذ قال لهم : { ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم } [ الأعراف : 73 ] .
والضّمير في قوله : { فعقروا } عائد إلى { الذين استكبروا } [ الأعراف : 75 ] ، وقد أسند العقر إليهم وإن كان فاعله واحداً منهم لأنّه كان عن تمالىء ورضى من جميع الكبراء ، كما دلّ عليه قوله تعالى في سورة القمر ( 29 ) : { فَنادَوْا صاحبَهم فتعاطى فعَقر } وهذا كقول النّابغة في شأن بني حُنّ :
وهم قتلوا الطاءيّ بالجوّ عنوة *** وإنَّما قتله واحد منهم
وذُكر في الأثر : أنّ الذي تولّى عقر النّاقة رجل من سادتهم اسمه ( قُدار ) بضم القاف ودال مهملة مخففة وراء في آخره ابن سالف . وفي حديث البخاري أنّ النبي ذكر في خطبته الذي عقر الناقة فقال : انبعثَ لها رجل عزيز عَارِم منيعٌ في رهطه مثل أبي زمْعة .
والعَقْر : حقيقته الجرح البليغ ، قال امرؤ القيس :
تقول وقد مال الغبيط بِنَا معا *** عَقَرْتَ بعيري يا امرأ القيس فانزل
أي جرحتَه باحتكاك الغبيط في ظهره من مَيله إلى جهةٍ ، ويطلق العقر على قطع عضو الحيوان ، ومنه قولهم ، عَقَرَ حمارَ وحش ، أي ضربه بالرّمح فقطع منه عضواً ، وكانوا يعقرون البعير المرادَ نحرُه بقطع عضوٍ منه حتّى لا يستطيع الهروب عند النّحر ، فلذلك أطلق العقر عن النّحر على وجه الكناية قال امرؤ القيس :
ويَومَ عَقَرْتُ للعذارَى مطيَّتي
والعُتوّ تجاوز الحد في الكِبْر ، وتعديته ب ( مَن ) لتضمينه معنى الإعراض .
وأمرُ ربّهم هو ما أمرهم به على لسان صالح عليه السّلام من قوله : { ولا تمسوها بسوء } [ الأعراف : 73 ] فعُبّر عن النّهي بالأمر لأنّ النّهي عن الشّيء مقصود منه الأمر بفعل ضدّه ، ولذلك يقول علماء الأصول إنّ النّهي عن الشّيء يستلزم الأمرَ بضدّه الذي يحصل به تحقّق الكفّ عن المنهي عنه .
وأرادوا : { بما تعدنا } العذاب الذي توعَّدهم به مجملاً .
وجيء بالموصول للدّلالة على أنّهم لا يخشون شيئاً ممّا يريده من الوعيد المجمل . فالمراد بما تتوعدنا به وصيغت صلة الموصول من مادة الوعد لأنه أخف من مادة الوعد .
وقد فرضوا كونَه من المرسلين بحرف ( إنْ ) الدّال على الشكّ في حصول الشّرط ، أي إن كنتَ من الرّسل عن الله فالمراد بالمرسلين من صَدق عليهم هذا اللّقب . وهؤلاء لجهلهم بحقيقة تصرّف الله تعالى وحكمته ، يحسبون أنّ تصرّفات الله كتصرّفات الخلق ، فإذا أرسل رسولاً ولم يصدّقْه المرسَل إليهم غَضِب الله واندَفع إلى إنزال العقاب إليهم ، ولا يعلمون أنّ الله يُمهل الظّالمين ثمّ يأخذهم متى شاء .