قوله تعالى : { قل يتوفاكم } يقبض أرواحكم ، { ملك الموت الذي وكل بكم } أي : وكل يقبض أرواحكم وهو عزرائيل ، والتوفي استيفاء العدد المضروب للخلق في الأزل معناه أنه يقبض أرواحهم حتى لا يبقى أحد من العدد الذي كتب عليه الموت . وروي أن ملك الموت جعلت له الدنيا مثل راحة اليد يأخذ منها صاحبها ما أحب من غير مشقة ، فهو يقبض أنفس الخلق في مشارق الأرض ومغاربها ، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب . فملائكة الرحمة للمؤمنين ، وملائكة العذاب للكافرين ، وقال ابن عباس : إن خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب . وقال مجاهد : جعلت له الأرض مثل طست يتناول منها حيث يشاء . وفي بعض الأخبار : أن ملك الموت على معراج بين السماء والأرض فينزع أعوانه روح الإنسان فإذا بلغ ثغره نحره فقبضه ملك الموت . وروى خالد بن معدان عن معاذ بن جبل قال : إن لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب ، وهو يتصفح وجوه الناس ، فما من أهل بيت إلا وملك الموت يتصفحهم في كل يوم مرتين ، فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة ، وقال : الآن تنزل بك سكرات الموت . قوله : { ثم إلى ربكم ترجعون } أي : تصيرون إليه أحياءً فيجزيكم بأعمالكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ يَتَوَفّاكُم مّلَكُ الْمَوْتِ الّذِي وُكّلَ بِكُمْ ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله : يتوفاكم ملك الموت ، يقول : يستوفي عددكم بقبض أرواحكم ملك الموت الذي وكل بقبض أرواحكم ومنه قول الراجز :
إنّ بَنِي الأَدْرَمِ لَيْسُوا مِنْ أحَدْ *** وَلا تَوَفّاهُمْ قُرَيْشٌ فِي العَدَدْ
ثُمّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ يقول : من بعد قبض ملك الموت أرواحكم إلى ربكم يوم القيامة تردّون أحياء كهيئتكم قبل وفاتكم ، فيجازى المحسن منكم بإحسانه ، والمُسيء بإساءته .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الّذِي وُكّلَ بِكُمْ قال : ملك الموت يتوفاكم ، ومعه أعوان من الملائكة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ قال : حُوِيَت له الأرض ، فجُعلت له مثل الطست يتناول منها حيث يشاء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، بنحوه .
و { ملك الموت } اسمه عزرائيل وتصرفه كله بأمر الله وبخلقه واختراعه وروي في الحديث أن البهائم كلها يتوفى الله روحها دون ملك .
قال الفقيه الإمام القاضي : كأن يعدم حياتها{[9422]} ، وكذلك الأمر في بني آدم إلا أنه نوع شرف بتصرف ملك وملائكة معه في قبض أرواحهم ، وكذلك أيضاً غلظ العذاب على الكافرين بذلك ، وروي عن مجاهد : أن الدنيا بين يدي ملك الموت كالطست بين يدي الإنسان يأخذ من حيث أمر .
استئناف ابتدائي جار على طريقة حكاية المقاولات لأن جملة { قل } في معنى جواب لقولهم { أإذا ضللنا في الأرض إنّا لفي خلق جديد } [ السجدة : 10 ] ؛ أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعيد إعلامهم بأنهم مبعوثون بعد الموت . فالمقصود من الجملة هو قوله { ثم إلى ربكم ترجعون } إذ هو مناط إنكارهم ، وأما إنهم يتوفّاهم ملك الموت فذكره لتذكيرهم بالموت وهم لا ينكرون ذلك ولكنهم ألهتهم الحياة الدنيا عن النظر في إمكان البعث والاستعداد له فذكروا به ثم أدمج فيه ذكر ملك الموت لزيادة التخويف من الموت والتعريض بالوعيد من قوله { الذي وُكِّل بكم } فإنه موكل بكل ميت بما يناسب معاملته عند قبض روحه . وفيه إبطال لجهلهم بأن الموت بيد الله تعالى وأنه كما خلقهم يميتهم وكما يميتهم يحييهم ، وأن الإماتة والإحياء بإذنه وتسخير ملائكته في الحالين . وذلك إبطال لقولهم { ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا } [ الجاثية : 24 ] فأعلمهم الله أنهم لا يخرجون عن قبضة تصرفه طرفة عين لا في حال الحياة ولا في حال الممات . وإذا كان موتهم بفعل ملك الموت الموكل من الله بقبض أرواحهم ظهر أنهم مردودة إليهم أرواحهم متى شاء الله .
والتوفّي : الإماتة . وتقدم في قوله تعالى : { وهو الذي يتوفاكم بالليل } في سورة الأنعام ( 60 ) ، وقوله : { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة } في سورة الأنفال ( 50 ) .
وملك الموت هو الملك الموكّل بقبض الأرواح وقد ورد ذكره في القرآن مفرداً كما هنا وورد مجموعاً في قوله : { ولو تَرى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة } في سورة الأنفال ( 50 ) ، وقوله : { تَوفّتْه رسُلُنا } في سورة الأنعام ( 61 ) ، وذلك أن الله جعل ملائكة كثيرين لقبض الأرواح وجعل مُبلِّغ أمر الله بذلك عزرائيل فإسناد التوفّي إليه كإسناده إلى الله في قوله { الله يتوفّى الأنفس } [ الزمر : 42 ] ، وجعل الملائكة الموكلين بقبض الأرواح أعواناً له وأولئك يسلمون الأرواح إلى عزرائيل فهو يقبضها ويودعها في مقارها التي أعدها الله لها ، ولم يرد اسم عزرائيل في القرآن . وقيل : إن ملك الموت في هذه الآية مراد به الجنس فتكون كقوله { توفته رسلنا } [ الأنعام : 61 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله: يتوفاكم ملك الموت، يقول: يستوفي عددكم بقبض أرواحكم ملك الموت الذي وكل بقبض أرواحكم...
"ثُمّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ" يقول: من بعد قبض ملك الموت أرواحكم إلى ربكم يوم القيامة تردّون أحياء كهيئتكم قبل وفاتكم، فيجازى المحسن منكم بإحسانه، والمُسيء بإساءته.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أي يقبض أرواحكم، والتوفي: أخذ الشيء على تمام، مأخوذ من توفية العدد، ومنه قولهم استوفيت دَيْني من فلان.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فلما ذكر كفرهم بالإنشاء. أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في الكفر، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة، لا بالإنشاء وحده: ألا ترى كيف خوطبوا بتوفي ملك الموت وبالرجوع إلى ربهم بعد ذلك مبعوثين للحساب والجزاء، وهذا معنى لقاء الله على ما ذكرنا والتوفي: استيفاء النفس وهي الروح. قال الله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس} [الزمر: 42] وقال: أخرجوا أنفسكم، وهو أن يقبض كلها لا يترك منها شيء.
{الذي وكل بكم} إشارة إلى أنه لا يغفل عنكم وإذا جاء أجلكم لا يؤخركم إذ لا شغل له إلا هذا.
{يتوفاكم ملك الموت} ينبئ عن بقاء الأرواح فإن التوفي الاستيفاء والقبض هو الأخذ والإعدام المحض ليس بأخذ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر استبعادهم، وأتبعه عنادهم، وكان إنكارهم إنما هو بسبب اختلاط الأجزاء بالتراب بعد انقلابها تراباً، فكان عندهم من المحال تمييزها من بقية التراب. دل على أن ذلك عليه هين بأن نبههم على ما هم مقرّون به مما هو مثل ذلك بل أدق. فقال مستأنفاً: {قل} أي جواباً لهم عن شبهتهم: {يتوفاكم} أي يقبض أرواحكم كاملة من أجسادكم بعد أن كانت مختلطة بجميع أجزاء البدن، لا تميز لأحدهما عن الآخر بوجه تعرفونه بنوع حيلة {ملك الموت} ثم أشار إلى أن فعله بقدرته، وأن ذلك عليه في غاية السهولة، ببناء الفعل لما لم يسم فاعله فقال: {الذي وكل بكم} أي وكله الخالق لكم بذلك، وهو عبد من عبيده، ففعل ما أمر به، فإذا البدن ملقى لا روح في شيء منه وهو على حاله كاملاً لا نقص في شيء منه يدعي الخلل بسببه، فإذا كان هذا فعل عبد من عبيده صرفه في ذلك فقام به على ما ترونه مع أن ممازجة الروح للبدن أشد من ممازجة تراب البدن لبقية التراب لأنه ربما يستدل بعض الحذاق على بعض ذلك بنوع دليل من شم ونحوه، فكيف يستبعد شيء من الأشياء على رب العالمين، ومدير الخلائق أجمعين؟.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{يتوفاكم مَّلَكُ الموت} لا كما تزعمون أنَّ الموتَ من الأحوالِ الطَّبيعيةِ العارضةِ للحيوانِ بموجبِ الجبلَّةِ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هكذا في صورة الخبر اليقين.. فأما ملك الموت من هو؟ وكيف يتوفى الأنفس فهذا من غيب الله، الذي نتلقى خبره من هذا المصدر الوثيق الأكيد. ولا زيادة على ما نتلقاه من هذا المصدر الوحيد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالمقصود من الجملة هو قوله {ثم إلى ربكم ترجعون} إذ هو مناط إنكارهم، وأما إنهم يتوفّاهم ملك الموت فذكره لتذكيرهم بالموت وهم لا ينكرون ذلك ولكنهم ألهتهم الحياة الدنيا عن النظر في إمكان البعث والاستعداد له فذكروا به ثم أدمج فيه ذكر ملك الموت لزيادة التخويف من الموت والتعريض بالوعيد.