الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{۞قُلۡ يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ ٱلۡمَوۡتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ تُرۡجَعُونَ} (11)

فيه مسألتان :

الأولى- قوله تعالى : " قل يتوفاكم ملك الموت " لما ذكر استبعادهم للبعث ذكر توفيهم وأنه يعيدهم . " يتوفاكم " من توفى العدد والشيء إذا استوفاه وقبضه جميعا . يقال : توفاه الله أي استوفى روحه ثم قبضه . وتوفيت مالي من فلان أي استوفيته . " ملك الموت " واسمه عزرائيل ومعناه عبد الله ، كما تقدم في " البقرة " {[12653]} . وتصرفه كله بأمر الله تعالى وبخلقه واختراعه . وروي في الحديث أن ( البهائم كلها يتوفى الله أرواحها دون ملك الموت ) كأنه يعدم حياتها ، ذكره ابن عطية .

قلت : وقد روي خلافه ، وأن ملك الموت يتوفى أرواح جميع الخلائق حتى البرغوث والبعوضة . روى جعفر بن محمد عن أبيه قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( ارفق بصاحبي فإنه مؤمن ) فقال ملك الموت عليه السلام : ( يا محمد ، طب نفسا وقر عينا فإني بكل مؤمن رفيق . واعلم أن ما من أهل بيت مدر ولا شعر في بر ولا بحر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات حتى لأنا أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم . والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها ) . قال جعفر بن علي : بلغني أنه يتصفحهم عند مواقيت الصلوات ، ذكره الماوردي . وذكر الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي قال : حدثني أبو محمد الحسن بن محمد الخلال قال : حدثنا أبو محمد عبدالله بن عثمان الصفار قال حّدثنا أبو بكر حامد المصري قال حدثنا يحيى ابن أيوب العلاف قال حدثنا سليمان بن مهير الكلابي قال : حضرت مالك بن أنس رضي الله عنه فأتاه رجل فسأله : أبا عبد الله ، البراغيث أملك الموت يقبض أرواحها ؟ قال : فأطرق مالك طويلا ثم قال : ألها أنفس ؟ قال نعم . قال : ملك الموت يقبض أرواحها ، " الله يتوفى الأنفس حين موتها " {[12654]} [ الزمر :42 ] . قال ابن عطية بعد ذكره الحديث وكذلك الأمر في بني آدم ، إلا أنه نوع شرف بتصرف ملك وملائكة معه في قبض أرواحهم . فخلق الله تعالى ملك الموت وخلق على يديه قبض الأرواح ، واستلالها من الأجسام وإخراجها منها . وخلق الله تعالى جندا يكونون معه يعملون عمله بأمره ، فقال تعالى : " ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة " {[12655]} ، [ الأنفال : 50 ] وقال تعالى : " توفته رسلنا " [ الأنعام : 61 ] وقد مضى هذا المعنى في " الأنعام " {[12656]} . والبارئ خالق الكل ، الفاعل حقيقة لكل فعل ، قال الله تعالى : " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها " [ الزمر : 42 ] . " الذي خلق الموت والحياة " {[12657]} [ الملك : 2 ] . " يحيي ويميت " [ الأعراف : 158 ] . فملك الموت يقبض والأعوان يعالجون والله تعالى يزهق الروح . وهذا هو الجمع بين الآي والأحاديث ، لكنه لما كان ملك الموت متولي ذلك بالوساطة والمباشرة أضيف التوفي إليه كما أضيف الخلق للملك ؛ كما تقدم في " الحج " {[12658]} . وروي عن مجاهد أن الدنيا بين يدي ملك الموت كالطست بين يدي الإنسان يأخذ من حيث شاء . وقد روي هذا المعنى مرفوعا ، وقد ذكرناه في ( كتاب التذكرة ) . وروي أن ملك الموت لما وكله الله تعالى بقبض الأرواح قال : رب جعلتني أذكر بسوء ويشتمني بنو آدم . فقال الله تعالى له : ( إني أجعل للموت عللا وأسبابا من الأمراض والأسقام ينسبون الموت إليها فلا يذكرك أحد إلا بخير ) . وقد ذكرناه في التذكرة مستوفى - وقد ذكرنا أنه يدعو الأرواح فتجيئه ويقبضها ، ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة أو العذاب - بما فيه شفاء لمن أراد الوقوف على ذلك .

الثانية- استدل بهذه الآية بعض العلماء على جواز الوكالة من قوله : " وكل بكم " أي بقبض الأرواح . قال ابن العربي : " وهذا أخذ من لفظه لا من معناه ، ولو اطرد ذلك لقلنا في قوله تعالى : " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم{[12659]} جميعا " [ الأعراف : 158 ] : إنها نيابة عن الله تبارك وتعالى ووكالة في تبليغ رسالته ، ولقلنا أيضا في قوله تبارك وتعالى : " وآتوا الزكاة " [ النور : 56 ] إنه وكالة ، فإن الله تعالى ضمن الرزق لكل دابة وخص الأغنياء بالأغذية وأوعز إليهم بأن رزق الفقراء عندهم ، وأمر بتسليمه إليهم مقدارا معلوما في وقت معلوم ، دبره بعلمه ، وأنفذه من حكمه ، وقدره بحكمته . والأحكام لا تتعلق بالألفاظ إلا أن ترد على موضوعاتها الأصلية في مقاصدها المطلوبة ، فإن ظهرت في غير مقصدها لم تعلق عليها . ألا ترى أن البيع والشراء معلوم اللفظ والمعنى ، وقد قال تعالى : " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " {[12660]} [ التوبة : 111 ] ولا يقال : هذه الآية دليل على جواز مبايعة السيد لعبده ؛ لأن المقصدين مختلفان . أما إنه إذا لم يكن بد من المعاني فيقال : إن هذه الآية دليل على أن للقاضي أن يستنيب من يأخذ الحق ممن هو عليه قسرا دون أن يكون له في ذلك فعل ، أو يرتبط به رضا إذا وجد ذلك .


[12653]:راجع ج 2 ص 38.
[12654]:راجع ج 15 ص 260 فما بعد.
[12655]:راجع ج 8 ص 28.
[12656]:راجع ج 7 ص 6 و ص 99.
[12657]:راجع ج 18 ص 206.
[12658]:راجع ج 12 ص 7 و ص 99.
[12659]:راجع ج 7 ص 301 فما بعد.
[12660]:راجع ج 8 ص 266 فما بعد.