القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أَوَ لم يبين لهم ؟ كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس أوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ يقول : أو لم يبين لهم .
وعلى القراءة بالياء في ذلك قرّاء الأمصار ، وكذلك القراءة عندنا لإجماع الحجة من القرّاء ، بمعنى : أو لم يبين لهم إهلاكنا القرون الخالية من قبلهم ، سنتنا فيمن سلك سبيلهم من الكفر بآياتنا ، فيتعظوا وينزجروا . وقوله كَمْ إذا قُرىء يهْدِ بالياء ، في موضع رفع بيهد . وأما إذا قرىء ذلك بالنون «أوَ لَمْ نَهْدِ » فإن موضع «كم » وما بعدها نصب . وقوله : يَمْشونَ فِي مَساكِنهمْ يقول تعالى ذكره : أو لم يبين لهن كثرة إهلاكنا القرون الماضية من قبلهم يمشون في بلادهم وأرضهم ، كعاد وثمود . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أو لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهمْ مِنَ القُرُونِ عاد وثمود وأنهم إليهم لا يُرجعون .
وقوله : إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ يقول تعالى ذكره : إن في خلاء مساكن القرون الذين أهلكناهم من قبل هؤلاء المكذّبين بآيات الله من قريش من أهلها الذين كانوا سكانها وعمّارها بإهلاكنا إياهم لما كذّبوا رسلنا ، وجحدوا بآياتنا ، وعبدوا من دون الله آلهة غيره التي يمرّون بها فيعاينونها ، لاَيات لهم وعظات يتعظون بها ، لو كانوا أولي حجا وعقول . يقول الله : أفَلا يَسْمَعُونَ عظات الله وتذكيره إياهم آياته ، وتعريفهم مواضع حججه ؟
{ أو لم يهد لهم } الواو للعطف على منوي من جنس المعطوف والفاعل ضمير ما دل عليه . { كم أهلكنا من قبلهم من القرون } أي كثرة من أهلكناهم من القرون الماضية ، أو ضمير الله بدليل القراءة بالنون . { يمشون في مساكنهم } يعني أهل مكة يمرون في متاجرهم على ديارهم ، وقرئ " يمشون " بالتشديد . { إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون } سماع تدبر واتعاظ .
عطف على جملة { ومَن أظلم ممّن ذُكِّر بآيات ربه ثم أعرض عنها } [ السجدة : 22 ] ، ولما كان ذلك التذكير متصلاً كقوله { وقالوا أإذا ضَللنا إنّا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون } [ السجدة : 10 ] كان الهدي ، أي العلم المستفهم عنه بهذا الاستفهام شاملاً للهدي إلى دليل البعث وإلى دليل العقاب على الإعراض عن التذكير فأفاد قوله { كم أهلكنا من قبلهم من القرون } معنين : أحدهما : إهلاك أمم كانوا قبلهم فجاء هؤلاء المشركون بعدهم ، وذلك تمثيل للبعث وتقريب لإمكانه . وثانيهما : إهلاك أمم كذبوا رسلهم ففيهم عبرة لهم أن يصيبهم مثل ما أصابهم .
والاستفهام إنكاري ، أي هم لم يهتدوا بدلائل النظر والاستدلال التي جاءهم بها القرآن فأعرضوا عنها ولا اتعظوا بمصَارع الأمم الذين كذبوا أنبياءهم وفي مهلكهم آيات تزجر أمثالهم عن السلوك فيما سلكوه . فضمير { لهم } عائد إلى المجرمين أو إلى من ذُكِّر بآيات ربه . و { يَهْدِ } من الهداية وهي الدلالة والإرشاد ، يقال : هداه إلى كذا .
وضمن فعل { يَهْدِ } معنى يبيّن ، فعدي باللام فأفاد هداية واضحة بينة . وقد تقدم نظيره في قوله تعالى { أو لم يَهْدِ للذين يرثون الأرض } في سورة [ الأعراف : 100 ] . واختير فعل الهداية في هذه الآية لإرادة الدلالة الجامعة للمشاهدة ولسماع أخبار تلك الأمم تمهيداً لقوله في آخرها { أفلا يسمعون } ، ولأن كثرة ذلك المستفادة من { كَم } الخبرية إنما تحصل بترتيب الاستدلال في تواتر الأخبار ولا تحصل دفعة كما تحصل دلالة المشاهدات .
وفاعل { يَهْدِ } ما دلت عليه { كم } الخبرية من معنى الكثرة . ولا يجوز عند الجمهور جعل كم فاعل يَهْدِ } لأن { كم } الخبرية اسم له الصدارة في الاستعمال إذ أصله استفهام فتوسع فيه .
ويجوز جعل كم فاعلاً عند من لم يشترطوا أن تكون كم الخبرية في صدر الكلام . وجوز في « الكشاف » أن يكون الفاعل جملة { كم أهلكنا } على معنى الحكاية لهذا القول ، كما يقال : تَعصمُ ( لا إله إلا الله ) الدماءَ والأموالَ ، أي هذه الكلمة أي النطق بها لتقلد الإسلام . ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الجلالة دالاً عليه المقام ، أي ألم يهدِ الله لهم فإن الله بَين لهم ذلك وذكّرهم بمصَارع المكذبين ، وتكون جملة { كم أهلكنا } على هذا استئنافاً ، وتقدم { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } في أول الأنعام ( 6 ) .
ونيط الاستدلال هنا بالكثرة التي أفادتها كم الخبرية لأن تكرر حدوث القرون وزوالها أقوى دلالة من مشاهدة آثار أمة واحدة .
و{ يمشون في مساكنهم } حال من فاعل { أو لم يروا } [ السجدة : 27 ] والمعنى : أنهم يمرون على المواضع التي فيها بقايا مساكنهم مثل حِجر ثمود وديار مدين فتعضد مشاهدةُ مساكنهم الأخبار الواردة عن استئصالهم وهي دلائل إمكان البعث كما قال تعالى : { وما نحن بِمَسْبُوقِين على أن نبدل أمثالكم ونُنْشِئَكم فيما لا تعلمون } [ الواقعة : 60 ، 61 ] ، ودلائل ما يحيق بالمكذبين للرسل ؛ وفي كل أمة وموطن دلائل كثيرة متماثلة أو متخالفة .
ولما كان الذي يؤثر من أخبار تلك الأمم وتقلبات أحوالها وزوال قوتها ورفاهيتها أشدّ دلالة وموعظة للمشركين فرع عليه { أفلا يسمعون } استفهاماً تقريرياً مشوباً بتوبيخ لأن اجتلاب المضارع وهو { يسمعون } مؤذن بأن استماع أخبار تلك الأمم متكرر متجدد فيكون التوبيخ على الإقرار المستفهَم عنه أوقعَ بخلاف ما بعده من قوله { أفلا يبصرون } [ السجدة : 27 ] . وقد شاع توجيه الاستفهام التقريري إلى المنفي ، وتقدم عند قوله تعالى { ألم يأتكم رسل منكم } في سورة الأنعام ( 130 ) ، وقوله : { ألم يروا أنه لا يكلمهم } في سورة الأعراف ( 148 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.