قوله تعالى : { وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها } ، أي : كما أن فساق مكة أكابرها ، كذلك جعلنا فساق كل قرية أكابرها ، أي : عظماءها ، جمع أكبر ، مثل : أفضل وأفاضل ، وأسود وأساود ، وذلك سنة الله تعالى أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم ، كما قال في قصة نوح عليه السلام : { أنؤمن لك واتبعك الأرذلون } [ الشعراء :111 ] ، وجعل فساقهم أكابرهم .
قوله تعالى : { ليمكروا فيها } ، وذلك أنهم أجلسوا على كل طريق من طرق مكة أربعة نفر ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، يقولون لكل من يقدم : إياك وهذا الرجل ، فإنه كاهن ، ساحر ، كذاب .
قوله تعالى : { وما يمكرون إلا بأنفسهم } ، لأن وبال مكرهم يعود عليهم .
ثم سلى الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم ببيان أن المترفين فى كل زمان ومكان هم أعداء الإصلاح ، وأن ما لقيه صلى الله عليه وسلم من أكابر مكة ليس بدعا بل هو شىء رآه الأنبياء قبله على أيدى أمثال هؤلاء المترفين فقال - تعالى - : { وكذلك جَعَلْنَا . . . } .
أكابر : جمع أكبر ، وهم الرؤساء والعظماء فى الأمم . والمجرمون : جمع مجرم ، من أجرم إذا اكتسب أمرا قبيحا ، ومنه الجرم والجريمة للذنب والإثم .
والمعنى : وكما جعلنا فى قريتك مكة رؤساء دعاة إلى الكفر وإلى عداوتك جعلنا فى كل قرية من قرى الرسل من قبلك رؤساء من المجرمين مثلهم ليمكروا فيها ، ويتجبروا على الناس ، ثم كانت العاقبة للرسل ، فلا تبتئس يا محمد مما يصيبك من زعماء مكة فتلك طبيعة الحياة فى كل عصر ، أن يكون زعماء الأمم وكبراؤها أشد الناس عداوة للرسل والمصلحين .
قال الجمل : وقوله : { أَكَابِرَ } مفعول أول لجعل ، وأكابر مضاف ومجرميها مضاف إليه ، و { فِي كُلِّ قَرْيَةٍ } المفعول الثانى لجعل ، ووجب تقديمه ليصح عود الضمير عليه ، فهو على حد قوله :
كذا إذا عاد عليه مضمر . . . مما به عنه مبينا يخبر
هذا أحسن الأعاريب وهناك أوجه أخرى للأعراب لا تخلو من مقال .
وخص الأكابر بالمكر ، لأنهم هم الحاملون لغيرهم على الضلال ، وهم الذين يتبعهم الضعفاء فى كفرهم وفجورهم .
قال ابن كثير : والمراد بالمكر هنا دعاؤهم غيرهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال كقوله - تعالى - إخباراً عن قوم نوح { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } وكقوله : { وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ الليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } الآية . وقوله - سبحانه - { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } .
أى وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل والمصلحين فى كل وقت إلا بأنفسهم ، حيث يعود ضرره عليهم وحدهم فى الدنيا والآخرة ولكنهم لانطماس بصيرتهم ، لا يشعرون بأن مكرهم سيعود عليهم ضرره ، بل يتوهمون أنهم سينجون فى مكرهم بغيرهم من الأنبياء والمصلحين .
فالجملة الكريمة بيان لسنة من سنن الله فى خلقه ، وهى أن المكر السىء لا يحيق إلا بأهله ، وفى ذلك تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم عما يصيبه منهم ، وبشارة له ، ولأصحابه بالنصر عليهم ، ووعيد لأولئك الماكرين بسوء المصير .
وجملة { وَمَا يَشْعُرُونَ } حال من ضمير يمكرون ، وهى تسجل عليهم بلاهتهم وجهالتهم حيث فقدوا الشعور بما من شأنه أن يعترف به كل عاقل .
عطف على جملة : { كذلك زيّن للكافرين ما كانوا يعملون } [ الأنعام : 122 ] فلها حكم الاستئناف البياني ، لبيان سبب آخر من أسباب استمرار المشركين على ضلالهم ، وذلك هو مكر أكابر قريتهم بالرّسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين وصرفهم الحيل لصدّ الدهماء عن متابعة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشار إليه بقوله : { وكذلك } أولياء الشياطين بتأويل { كذلك } المذكور .
والمعنى : ومِثْل هذا الجعل الذي جعلناه لمشركي مكّة جعَلنا في كلّ قرية مضت أكابرَ يصدّون عن الخير ، فشبّه أكابر المجرمين من أهل مكّة في الشرّك بأكابر المجرمين في أهل القرى في الأمَممِ الأخرى ، أي أنّ أمر هؤلاء ليس ببدع ولا خاصّ بأعداء هذا الدّين ، فإنَّه سنّة المجرمين مع الرسل الأوّلين .
فالجَعل : بمعنى الخلق ووضععِ السّنن الكونيّة ، وهي سنن خلق أسباب الخير وأسباب الشرّ في كلّ مجتمع ، وبخاصّة القُرى .
وفي هذا تنبيه على أنّ أهل البداوة أقرب إلى قبول الخير من أهل القرى ، لأنَّهم لبساطة طباعهم من الفطرة السّليمة ، فإذا سمعوا الخير تقبّلوه ، بخلاف أهل القرى ، فإنَّهم لتشبّثهم بعوائدهم وما ألفوه ، ينفرون من كلّ ما يغيّره عليهم ، ولهذا قال الله تعالى : { وممنّ حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النّفاق } [ التوبة : 101 ] فجعل النّفاق في الأعراب نفاقاً مجرّداً ، والنّفاق في أهل المدينة نفاقاً مارداً .
وقد يكون الجَعل بمعنى التّصيير ، وهو تصيير خَلْق على صفة مخصوصة أو تصيير مخلوق إلى صفة بعد أن كان في صفة أخرى ، ثمّ إنّ تصارع الخير والشرّ يكون بمقدار غلبة أهل أحدهما على أهل الآخر ، فإذا غلب أهل الخير انقبض دعاة الشرّ والفساد ، وإذا انعكس الأمر انبسط دعاة الشرّ وكثروا . ومن أجل ذلك لم يزل الحكماء الأقدمون يبذلون الجهد في إيجاد المدينة الفاضلة الّتي وصفها ( أفلاطون ) في « كتابه » ، والّتي كادت أن تتحقّق صفاتها في مدينة ( أثينة ) في زمن جمهوريتها ، ولكنّها ما تحقّقت بحقّ إلاّ في مدينة الرّسول صلى الله عليه وسلم في زمانه وزمان الخلفاء الرّاشدين فيها .
وقد نبّه إلى هذا المعنى قوله تعالى : { وإذَا أردْنا أن نهلك قرية أمَّرْنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمرناها تدميراً } [ الإسراء : 16 ] على قراءة تشديد ميم : { أمَّرنا } . والأظهر في نظم الآية : أنّ { جعلنا } بمعنى خلقنا وأوجدنا ، وهو يتعدّى إلى مفعول واحد كقوله : { وجعل الظّلمات والنّور } [ الأنعام : 1 ] فمفعوله : { أكابر مجرميها } .
وقوله : { في كل قرية } ظرف لغو متعلّق ب { جعلنا } وإنَّما قدّم على المفعول مع أنّه دونه في التعلّق بالفعل ، لأنّ كون ذلك من شأن جميع القرى هو الأهمّ في هذا الخبر ، ليَعلم أهل مكّة أنّ حالهم جرى على سُنن أهل القرى المرسل إليها .
وفي قوله : { أكبر مجرميها } إيجاز لأنَّه أغنى عن أن يقول جعلنا مُجرمين وأكابر لهم وأن أولياء الشياطين أكابر مجرمي أهل مكة ، وقوله : { ليمكروا } متعلّق ب { جعلنا } أي ليحصُل المكر ، وفيه على هذا الاحتمال تنبيه على أنّ مكرهم ليس بعظيم الشأن .
ويحتمل أن يكون { جعلنا } بمعنى صيّرنا فيتعدّى إلى مفعولين هما : { أكبر مجرميها } على أنّ { مجرميها } المفعول الأوّل ، و { أكابر } مفعول ثان ، أي جعلنا مجرميها أكابر ، وقدم المفعول الثّاني للاهتمام به لغرابة شأنه ، لأنّ مصير المجرمين أكابر وسادة أمر عجيب ، إذ ليسوا بأهل للسؤدد ، كما قال طفيل الغنوي :
لا يصلح النّاس فَوضى لا سَراة لهم *** ولا سَراة إذا جُهَّالهم ســادوا
تُهدَى الأمورُ بأهل الرأي ما صَلُحت *** فإنْ تولَّتْ فبالأشرار تَنْقَــادُ
وتقديم قوله : { في كل قرية } للغرض المذكور في تقديمه للاحتمال الأوّل . وفي هذا الاحتمال إيذان بغلبة الفساد عليهم ، وتفاقم ضرّه ، وإشعار بضرورة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك القرية ، وإيذان باقتراب زوال سيادة المشركين إذ تولاها المجرمون لأنّ بقاءهم على الشّرك صيّرهم مجرمين بين مَن أسلم منهم .
ولعلّ كلا الاحتمالين مراد من الكلام ليفرض السّامعون كليهما ، وهذا من ضروب إعجاز القرآن كما تقدّم عند قوله تعالى : { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنَّه منزل من ربّك بالحقّ فلا تكوننّ من الممترين } [ الأنعام : 114 ] .
واللاّم في { ليمكروا } لام التّعليل ، فإنّ من جملة مراد الله تعالى من وضع نظام وجود الصّالح والفاسد ، أن يعمل الصّالح للصلاح ، وأن يعمل الفاسد للفساد ، والمكرُ من جملة الفساد ، ولام التّعليل لا تقتضي الحصر ، فللّه تعالى في إيجاد أمثالهم حِكَم جمّة ، منها هذه الحكمة ، فيظهر بذلك شرف الحقّ والصّلاح ويسطع نوره ، ويظهر انْدِحاض الباطل بين يديه بعد الصّراع الطّويل ؛ ويجوز أن تكون اللام المسماةَ لام العاقبة ، وهي في التحقيق استعارة اللام لمعنى فاء التفريع كالتي في قوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً } [ القصص : 8 ] .
ودخلت مكّة في عموم : { كل قرية } وهي المقصود الأول ، لأنَّها القرية الحاضرة الّتي مُكِر فيها ، فالمقصود الخصوص . والمعنى : وكذلك جعلنا في مكّة أكابر مجرميها ليمكروا فيها كما جعلنا في كلّ قرية مثلَهم ، وإنَّما عُمّم الخبرُ لقصد تذكير المشركين في مكّة بما حلّ بالقرى من قبلها ، مثل قرية : الحِجر ، وسَبا ، والرّس ، كقوله : { تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبيّنات فما كانوا ليؤمنوا } [ الأعراف : 101 ] ، ولقصد تسلية الرّسول صلى الله عليه وسلم بأنَّه ليس ببدع من الرّسل في تكذيب قومه إيَّاه ومكرهم به ووعده بالنّصر .
وقوله : { أكبر مجرميها } أكابر جمع أكبر . وأكبر اسم لعظيم القوم وسيّدهم ، يقال : ورثوا المجد أكْبَر أكْبَر ، فليست صيغة أفعل فيه مفيدة الزّيادة في الكبر لا في السِنّ ولا في الجسم ، فصار بمنزلة الاسم غير المشتقّ ، ولذلك جمع إذا أخبر به عن جمع أو وُصف به الجمع ولو كان معتبراً بمنزلة الاسم المشتقّ لكان حقّه أن يلزم الإفراد والتّذكير .
وجمع على أكابر ، يقال : ملوك أكابر ، فوزن أكابر في الجمع فَعالل مثل أفاضل جمع أفضل ، وأيامِنَ وأشَائِمَ جمع أيَمن وأشأم للطّير السوانح في عرف أهل الزجر والعيافة .
وأعلم أنّ اصطلاح النّحاة في موازين الجموع في باب التّكسير وفي باب ما لا ينصرف أن ينظروا إلى صورة الكلمة من غير نظر إلى الحروف الأصليّة والزائدة بخلاف اصطلاح علماء الصّرف في باب المُجرّد والمزيد . فهمزة أكبر تعتبر في الجمع كالأصلي وهي مزيدة .
وفي قوله : { أكبر مجرميها } إيجاز لأنّ المعنى جعلنا في كلّ قرية مجرمين وجعلنا لهم أكابر فلمّا كان وجود أكابر يقتضي وجود من دونهم استغنى بذكر أكابر المجرمين .
والمكر : إيقاع الضرّ بالغير خُفية وتحيُّلاً ، وهو من الخداع ومن المذام ، ولا يغتفر إلاّ في الحرب ، ويغتفر في السّياسة إذا لم يمكن اتّقاء الضرّ إلاّ به ، وأمّا إسناده إلى الله في قوله تعالى : { ومكرَ الله واللَّهُ خير الماكرين } [ آل عمران : 54 ] فهو من المشاكلة لأنّ قبلهُ { ومكروا } [ آل عمران : 54 ] ، أي مكروا بأهل الله ورسله . والمراد بالمكر هنا تحيّل زعماء المشركين على النّاس في صرفهم عن النّبيء صلى الله عليه وسلم وعن متابعة الإسلام ، قال مجاهد : كانوا جلسوا على كلّ عقبة ينفّرون النّاس عن اتّباع النّبيء صلى الله عليه وسلم .
وقد حذف متعلِّق : { ليمكروا } لظهوره ، أي ليمكروا بالنَّبيء عليه الصلاة والسلام ظنّاً منهم بأنّ صدّ النّاس عن متابعته يضرّه ويحزنه ، وأنَّه لا يعلم بذلك ، ولعلّ هذا العمل منهم كان لما كثُر المسلمون في آخر مدّة إقامتهم بمكّة قبيل الهجرة إلى المدينة ، ولذلك قال الله تعالى : { وما يمكرون إلا بأنفسهم } ، فالواو للحال ، أي هم في مكرهم ذلك إنَّما يضرّون أنفسهم ، فأطلق المكر على مآله وهو الضرّ ، على سبيل المجاز المرسل ، فإنّ غاية المكر ومآله إضرار الممكور به ، فلمّا كان الإضرار حاصلا للماكرين دون الممكور به أطلق المكر على الإضرار .
وجيء بصيغة القصر : لأنّ النّبيّء صلى الله عليه وسلم لا يلحقه أذى ولا ضرّ من صدّهم النّاس عن اتِّباعه ، ويَلحق الضرّ الماكرين ، في الدّنيا : بعذاب القتل والأسر ، وفي الآخرة : بعذاب النّار ، إنْ لم يؤمنوا فالضرّ انحصر فيهم على طريقة القصر الإضافي ، وهو قصر قلب .
وقوله : { وما يشعرون } جملة حال ثانية ، فهم في حالة مكرهم بالنّبيء متّصفون بأنَّهم ما يمكرون إلاّ بأنفسهم وبأنَّهم ما يشعرون بلحاق عاقبة مكرهم بهم ، والشّعور : العلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وكذلك}، يعني وهكذا {جعلنا في كل قرية} خلت، يعني عصت، {أكابر مجرميها}، يعني جبابرتها وكبراءها، جعلنا بمكة المستهزئين من قريش، {ليمكروا فيها}، يعني في القرية بالمعاصي... يقول الله: {وما يمكرون إلا بأنفسهم}، وما معصيتهم إلا على أنفسهم، {وما يشعرون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون، كذلك جعلنا بكلّ قرية عظماءها مجرميها، يعني: أهل الشرك بالله والمعصية له "لِيَمْكُرُوا فِيها "بغرور من القول أو بباطل من الفعل بدين الله وأنبيائه. "وَما يَمْكُرُونَ": أي ما يحيق مكرهم ذلك، إلاّ بأنْفُسِهِمْ، لأن الله تعالى ذكره من وراء عقوبتهم على صدّهم عن سبيله. "وهم لا يشعرون"، يقول: لا يدرون ما قد أعدّ الله لهم من أليم عذابه، فهم في غيهم وعتوّهم على الله يتمادون...
وأما المكر: فإنه الخديعة والاحتيال للممكور به بالغدر ليورّطه الماكر به مكروها من الأمر.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها} أي جعل في كل قرية من أهل الكفر أكابر مجرميها وعظمائها كما جعل في قريتك أكابر مجرميها. يصبِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ليعلم أنه ليس بمخصوص هو بهذا دون غيره من الأنبياء.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" كذلك جعلنا "أي جعلنا ذا المكر من المجرمين، كما جعلنا ذا النور من المؤمنين، فكلما فعلنا بهؤلاء فعلنا بأولئك، إلا أن أولئك اهتدوا بحسن اختيارهم، وهؤلاء ضلوا بسوء اختيارهم، لأن كل واحد منهما جُعِل بمعنى: صار به كذا، إلا أن الأول باللطف، والثاني بالتمكين من المكر، فصار كأنه جعل كذا...
وانما خص أكابر المجرمين بهذا المعنى دون الأصاغر، لأنه أحسن في الاقتدار على الجميع، لأن الأكابر إذا كانوا في قبضة القادر فالأصاغر بذلك أجدر...
"وما يمكرون إلا بأنفسهم "لأن عقاب ذلك يحل بهم. والمكر هو فتل الشيء إلى خلاف الرشد على وجه الحيلة في الأمر. والمكر والختل والغدر نظائر. وأصل المكر الفتل. ومنه جارية ممكورة أي مفتولة البدن. ووجه مكر الإنسان بنفسه أن وبال مكره يعود عليه، كأنه قال: وما يضرون بذلك المكر الا أنفسهم، وما يشعرون أنهم يمكرون بها، ولا يصح أن يمكر الإنسان بنفسه على الحقيقة، لأنه لا يصح أن يخفي عن نفسه معنى ما يحتال به عليها ويصح أن يخفي ذلك عن غيره. وفائدة الآية ان أكابر المجرمين لم يمكروا بالمؤمنين على وجه المغالبة لله، إذ كأنه جعلهم ليمكروا مبالغة في انتفاء صفة المغالبة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ومعناه: خليناهم ليمكروا وما كففناهم عن المكر، وخصّ الأكابر لأنهم هم الحاملون على الضلال والماكرون بالناس... وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديم موعد بالنصرة عليهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية تتضمن إنذاراً بفساد حال الكفرة المتقدم ذكرهم، لأنه مقتضى حال من تقدمهم من نظرائهم،... و {جعلنا} في هذه الآية بمعنى صيرنا، فهي تتعدى إلى مفعولين الأول {مجرميها} والثاني {أكابر}... و «المكر» التخيل بالباطل والخديعة ونحوهما... {وما يشعرون} أي ما يعلمون، وهي لفظة مأخوذة من الشعار وهو الشيء الذي يلي البدن، فكأن الذي لا يشعر نفي عنه أن يعلم علم حس، وفي ذلك مبالغة في صفة جهله، إذ البهائم تعلم علوم الحس وأما هذه الآية فإنما نفي فيها الشعور في نازلة مخصوصة...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
وإنما جعل الأكابر فساق كل قرية، لأنهم أقرب إلى الكفر بما أعطوا من الرياسة والسعة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان معلوماً أن عداوتهم له صلى الله عليه وسلم المشار إليها بقوله {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً} الآية، لا يقوم بها إلا أكابر الناس، لما كان عليه صلى الله عليه وسلم من جلالة المنصب وشرف العشيرة وكثرة الأقارب وأنه لا يتمادى عليها إلا جاهل مطموس البصيرة مزين له قبيح أعماله، عطف تعالى على التزيين للكافرين قوله: {وكذلك} أي مثل ما زينا للكافرين سوء أعمالهم، فكان أكابر أهل مكة يمكرون فيتبع غيرهم مكرهم... ولما كان من شأن الإنسان استجلاب أسباب الرفعة لنفسه، وكان لا يصل إلى ذلك في دار ربط المسببات بحكمة الأسباب إلا بالمكر، وكان الأكابر أقدر على إنفاذ المكر وترويج الأباطيل بما لأغلب الناس من السعي في رضاهم طمعاً فيما عندهم، وكان الإنسان كلما تمكن من ذلك أمعن فيه، وكان الكبير إنما يصل إلى ما قدر له من ذلك بتقدير الله له؛ كان بما قدر له من ذلك كأنه خلقه له، فقال معبراً بالجعل لما فيه من التصيير والتسبيب: {ليمكروا فيها} أي يخدعوا أصاغرهم ويغروهم بما يلبسون عليهم من الأمور حتى يتبعوهم فيعادوا لهم حزب الله. ولما كان ذلك موجعاً وغائظاً محزناً، قال تصغيراً لشأنهم وتحقيراً لأمرهم: {وما} أي والحال أنهم ما {يمكرون إلا بأنفسهم} لأن عملهم بالمكر وبال عليهم موبق لهم، ولأن مكرهم بأولياء الله إنما هو مكر بالله، وذلك غير متأت ولا كائن بوجه من الوجوه، وكيف يتأتى مكر من لا يعلم شيئاً من الغيب بمن يعلم جميع الغيب! {وما يشعرون} أي و ما لهم نوع شعور بأن مكرهم عائد على نفوسهم، لأن الله تعالى الذي يعلم سرهم وجهرهم يجعل بما يزين لهم تدميرهم في تدبيرهم، وإنما أجرى سنته الإلهية بذلك لما يشتمل عليه من أعلام النبوة، فإن غلبة شخص واحد -بمفرده أو باتباع كثير منهم ممن لا يؤبه لهم مع قلة العدد وضعف المدد لرؤساء الناس وأقويائهم مع طول مكثه بينهم منابذاً لهم منادياً عليهم بأن دينكم يمحى وديني يظهر وإن كرهتم- من خوارق العادات وبواهر الآيات تصديقاً لقوله تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة: 21] {وإن جندنا لهم الغالبون} [الصافات: 173] -في أمثال ذلك...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} اختلف في وجه التشبيه هنا فاستنبطه بعضهم من قرينة الحال التي نزلت فيها السورة وهي بيان حال أهل مكة في كفرهم وعداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم بإغراء أكابرهم المستكبرين، وتقديره: وكما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية من قرى الأمم أكابر مجرميها ليمكروا فيها، فليس هؤلاء الأكابر ببدع من الأكابر المجرمين، بل ذلك شأن الأكابر المترفين المتكبرين في كل أمة، واستنبطه بعضهم من عبارة الآية التي قبل هذه الآية، فجعل القرينة له لفظية فقال في التقدير: وكما زين للكافرين ما كانوا يعملون كذلك جعلنا في كل قرية الخ وجمع بعضهم بين القرينتين اللفظية والحالية المعنوية، فعلى هذا يكون التقدير هكذا: وكما أن أعمال أهل مكة مزينة لهم جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها فزين لهم بحسب سنتنا في البشر سوء أعمالهم في عداوة الرسل ومقاومة الإصلاح اتباعا للهوى واستكبارا في الأرض...
والمجرمون أصحاب الجرم أو فاعلو الإجرام وهو ما فيه الفساد والضرر من الأعمال. والقرية: البلد الجامع للناس، ويستعمل في التنزيل بمعنى العاصمة في عرف هذا العصر أي المدينة الجامعة التي يقيم فيها زعماء الشعب وأولو أمره: وكذا بمعنى الشعب أو الأمة... "وجعلنا "متعدية لمفعول واحد عند بعضهم ولمفعولين عند الأكثرين...
والمكر: صرف المرء غيره عما يريده إلى غيره بضرب من الحيلة من الفعل أو الخلابة في القول، والأكثر فيه أن يكون الصرف عن الحق إلى الباطل وعن الخير إلى الشر، لأن الحق والخير قلما يحتاج إلى إخفاءهما بالحيلة والخلابة.
ونقول في العبرة بالآية بما يناسب حال هذا العصر: إن سنة الله تعالى في الاجتماع البشري قد مضت بأن يكون في كل عاصمة لشعب أو أمة أو كل قرية وبلدة بعث فيها رسول أو مطلقا رؤساء وزعماء مجرمون يمكرون فيها بالرسل، أو بأن يكون أكابرها المجرمون ماكرين فيها بالرسل في عهدهم وبسائر المصلحين من بعدهم. وكذلك شأن أكثر أكابر الأمم والشعوب ولا سيما في الأزمنة التي تكثر فيها المطامع ويعظم حب الرياسة والكبرياء: يمكرون بالناس من أفراد أمتهم وجماعتها ليحفظوا رياستهم ويعززوا كبرياءهم ويثمروا مطامعهم فيها، ويمكر الرؤساء والساسة منهم بغيرهم من الأمم والدول لإرضاء مطامع أمتهم وتعزيز نفوذ حكومتهم في تلك الأمم والدول. وقد عظم هذا المكر في هذا العصر فصار قطب رحى السياسة في الدول، وعظم الإفك بعظمه لأنه أعظم أركانه، وقد كتبنا مقالا في بيان ذلك وشرح علله وأسبابه عنوانه (دولة الكلام المبطلة الظالمة) نشر في الجزء الخامس من مجلد المنار الحادي والعشرين فليراجعه من شاء.
وهذا العموم في الآية صحيح واقع يعرفه أهل البصيرة والعلم بشؤون الاجتماع والعمران، ولا تظهر صحة العموم في القرى والأكابر جميعا بجعل الأكابر المجرمين ماكرين في جميع القرى، أو بجعل جميع المجرمين فيها أكابر أهلها بحيث يكون الإجرام هو سبب كونهم أكابرها، بل قد يتحقق بكون أكثر الأكابر الزعماء مجرمين ماكرين ولا سيما في القرى التي استحقت الهلاك بحسب سنة الاجتماع المبينة في قوله تعالى في سورة الإسراء: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} (الإسراء 66) ولا سيما على القول الراجح بأن معناه أمرنا مترفيها بما نرسل به الرسل من التوحيد وعبادة الله وحده وما يلزمه حتما من الصلاح والإصلاح والعدل ففسقوا عن أمر ربهم وظلموا وأفسدوا فحق عليها القول الذي أوحاه الله إلى الرسل بمثل قوله: {فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين} فدمرناها تدميرا وكذا على القول بأن معنى {أمرنا مترفيها} كثرانهم لأن كثرتهم وقلة الصالحين المتقين لا تتحقق عادة إلا إذا كان جمهور الأكابر منهم.
وقد راجعنا بعد كتابة ما تقدم تفسير الحافظ ابن كثير فألفيناه قد استشهد بآية الإسراء في تفسير الآية التي نحن بصدد تفسيرها وقال: قيل معناه أمرناهم بالطاعة فخالفوا فدمرناهم وقيل أمرناهم أمرا قدريا كما قال هنا "ليمكروا فيها" وقوله تعالى: {أكابر مجرميها ليمكروا فيها} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: سلطنا شرارهم فعصوا فيها فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم. ا ه والمراد بالأمر القدري ويعبر عنه بعضهم بأمر التكوين ما اقتضته سنة الله تعالى في نظام الخلق وتكوينه كما قال: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} (القمر 49) أي بنظام مقدر لا أنفا، وبحكمة بالغة لا جزافا، ثم نعود إلى بحث العموم في الآية فنقول: لو كانت العبارة نصا في أن جميع أكابر كل قرية مجرمون ماكرون لوجب جعلها من باب العموم المراد به الخصوص، بأن يراد بالأكابر المجرمين من يقاومون دعوة الإصلاح ويعادون المصلحين من الرسل وورثتهم لينطبق على الواقع، وإلا فإن أكابر أهل مكة لم يكونوا كلهم ماكرين بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإنما كان أكثرهم كذلك.
وعلل المفسرون تخصيص أكابر بأنهم أقدر على المكر واستتباع الناس، ومن قال منهم بأن المعنى جعلنا مجرميها أكابر ينبغي له أن يجعل اللام في قوله: "ليمكروا" لام العاقبة فإن المجرمين إذا صاروا أكابر بلد وزعماءه لا يمكنهم أن يحافظوا على مكانتهم فيه إلا بالمكر والخداع فيصير أمرهم إليهما.
{وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} هذا بيان حقيقة أخرى من طبائع الاجتماع الإنساني متممة لما قبلها وهي تتضمن الوعي لأكابر مجرمي مكة الماكرين والوعد والتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وذلك بالإيجاز الذي يستنبطه الأذكياء من أمثال هذه القواعد العامة وسيصرح به في الآيات التالية. أي وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل في عصرهم ودعاة الإصلاح من ورثتهم بعدهم إلا بأنفسهم وكذا سائر من يعادون الحق والعدل والصلاح لبقاء ما هم عليه من الفسق والفساد لأن عاقبة هذا المكر السيئ تحيق بهم في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فالأمر ظاهر والنصوص واضحة، وأما في الدنيا فيما ثبت في الآيات من نصر المرسلين وهلاك الكافرين المعاندين لهم ومن علو الحق على الباطل ودمغه له، ومن هلاك القرى الظالمة المفسدة وبما أيد ذلك من الاختيار حتى صار من قواعد علم الاجتماع أن تنازع البقاء ينتهي ببقاء الأمثل والأصلح وفاقا للمثل الذي ضربه الله تعالى للحق والباطل {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} (الرعد 17).
ومن النصوص الصريحة فيه بمعنى الآية قوله تعالى في مجرمي مكة {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم. فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين؟ فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا} (فاطر 42- 43} وهذا نص فيما انفردنا بفهمه من أن هذه الآيات بيان لسنن الله تعالى في الاجتماع البشري وقوله تعالى في رهط قوم صالح المفسدين، وهو ما أشار إليه هنا من سنة الأولين {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين} (النمل 52- 53} فالذين كانوا يمكرون السيئات لمقاومة إصلاح الرسل حرصا على رياستهم وفسقهم وفسادهم، لم يكونوا يشعرون بأن عاقبة مكرهم تحيق بهم لجهلهم بسنن الله تعالى في خلقه وهم جديرون بهذا الجهل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبنفس الطريقة، ولنفس الأسباب، وعلى هذه القاعدة جعل الله في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها.. ليتم الابتلاء؛ وينفذ القدر؛ وتتحقق الحكمة؛ ويمضي كل فيما هو ميسر له، وينال كل جزاءه في نهاية المطاف... إنها سنة جارية أن ينتدب في كل قرية -وهي المدينة الكبيرة والعاصمة- نفر من أكابر المجرمين فيها، يقفون موقف العداء من دين الله. ذلك أن دين الله يبدأ من نقطة تجريد هؤلاء الأكابر من السلطان الذي يستطيلون به على الناس، ومن الربوبية التي يتعبدون بها الناس، ومن الحاكمية التي يستذلون بها الرقاب، ويرد هذا كله إلى الله وحده.. رب الناس.. ملك الناس.. إله الناس.. إنها سنة من أصل الفطرة.. أن يرسل الله رسله بالحق.. بهذا الحق الذي يجرد مدعي الألوهية من الألوهية والربوبية والحاكمية. فيجهر هؤلاء بالعداوة لدين الله ورسل الله. ثم يمكرون مكرهم في القرى، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً. ويتعاونون مع شياطين الجن في المعركة مع الحق والهدى، وفي نشر الباطل والضلال، واستخفاف الناس بهذا الكيد الظاهر والخافي.. إنها سنة جارية. ومعركة محتومة. لأنها تقوم على أساس التناقض الكامل بين القاعدة الأولى في دين الله -وهي رد الحاكمية كلها لله- وبين أطماع المجرمين في القرى. بل بين وجودهم أصلاً.. معركة لا مفر للنبي أن يخوضها، فهو لا يملك أن يتقيها، ولا مفر للمؤمنين بالنبي أن يخوضوها وأن يمضوا إلى النهاية فيها.. والله سبحانه يطمئن أولياءه.. إن كيد أكابر المجرمين -مهما ضخم واستطال- لا يحيق إلا بهم في نهاية المطاف. إن المؤمنين لا يخوضون المعركة وحدهم فالله وليهم فيها، وهو حسبهم، وهو يرد على الكائدين كيدهم: (وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون). فليطمئن المؤمنون!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالجَعل: بمعنى الخلق ووضعِ السّنن الكونيّة، وهي سنن خلق أسباب الخير وأسباب الشرّ في كلّ مجتمع، وبخاصّة القُرى...
وفي هذا تنبيه على أنّ أهل البداوة أقرب إلى قبول الخير من أهل القرى، لأنَّهم لبساطة طباعهم من الفطرة السّليمة، فإذا سمعوا الخير تقبّلوه، بخلاف أهل القرى، فإنَّهم لتشبّثهم بعوائدهم وما ألفوه، ينفرون من كلّ ما يغيّره عليهم، ولهذا قال الله تعالى: {وممنّ حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النّفاق} [التوبة: 101] فجعل النّفاق في الأعراب نفاقاً مجرّداً، والنّفاق في أهل المدينة نفاقاً مارداً...
واللاّم في {ليمكروا} لام التّعليل، فإنّ من جملة مراد الله تعالى من وضع نظام وجود الصّالح والفاسد، أن يعمل الصّالح للصلاح، وأن يعمل الفاسد للفساد، والمكرُ من جملة الفساد، ولام التّعليل لا تقتضي الحصر، فللّه تعالى في إيجاد أمثالهم حِكَم جمّة، منها هذه الحكمة، فيظهر بذلك شرف الحقّ والصّلاح ويسطع نوره، ويظهر انْدِحاض الباطل بين يديه بعد الصّراع الطّويل؛ ويجوز أن تكون اللام المسماةَ لام العاقبة،... ودخلت مكّة في عموم: {كل قرية} وهي المقصود الأول، لأنَّها القرية الحاضرة الّتي مُكِر فيها، فالمقصود الخصوص. والمعنى: وكذلك جعلنا في مكّة أكابر مجرميها ليمكروا فيها كما جعلنا في كلّ قرية مثلَهم، وإنَّما عُمّم الخبرُ لقصد تذكير المشركين في مكّة بما حلّ بالقرى من قبلها،... أي هم في مكرهم ذلك إنَّما يضرّون أنفسهم، فأطلق المكر على مآله وهو الضرّ، على سبيل المجاز المرسل، فإنّ غاية المكر ومآله إضرار الممكور به، فلمّا كان الإضرار حاصلا للماكرين دون الممكور به أطلق المكر على الإضرار. وجيء بصيغة القصر: لأنّ النّبيّء صلى الله عليه وسلم لا يلحقه أذى ولا ضرّ من صدّهم النّاس عن اتِّباعه، ويَلحق الضرّ الماكرين، في الدّنيا: بعذاب القتل والأسر، وفي الآخرة: بعذاب النّار، إنْ لم يؤمنوا فالضرّ انحصر فيهم على طريقة القصر الإضافي، وهو قصر قلب. وقوله: {وما يشعرون} جملة حال ثانية، فهم في حالة مكرهم بالنّبيء متّصفون بأنَّهم ما يمكرون إلاّ بأنفسهم وبأنَّهم ما يشعرون بلحاق عاقبة مكرهم بهم، والشّعور: العلم...