التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا فِي كُلِّ قَرۡيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجۡرِمِيهَا لِيَمۡكُرُواْ فِيهَاۖ وَمَا يَمۡكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (123)

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 123 ) وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ( 1 ) عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ ( 124 )

في الآيات تقرير لمظهر من مظاهر النظام الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري وهو وجود زعماء ماكرين مجرمين في كل بيئة دأبهم الكيد والمكر والوقوف من رسل الله ودعاة الخير موقف التعطيل والعناد . فإذا جاءتهم آية كابروا وقالوا : لا نصدق حتى نرى وندرك ما يراه رسل الله ويدركونه . ورد عليهم بأن كيدهم لن يضر غيرهم ومكرهم لن يحيق إلا بهم دون أن يشعروا . وتقرير بأن الله تعالى يعلم أين يضع رسالته ، وكيف يصطفي ويختار رسله من بين الناس وإنذار قاصم بأن الماكرين المجرمين سيصيبهم هوان وذلة عند الله ، وسينالهم العذاب الشديد جزاء مكرهم وكيدهم .

والتنديد الشديد بالمجرمين من القرائن على صواب تأويلنا للجملة الأولى الذي أولنا به جملة مماثلة في الآية [ 112 ] من هذه السورة والآية [ 31 ] من سورة الفرقان ، وبه يزول ما يمكن أن يوهمه ظاهر الجملة من أن الله تعالى هو الذي يسوق الأكابر إلى الإجرام والصد ، أو يجعل أكابر المجرمين يسودون .

تعليق على آية

{ وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه }

وقد روى المفسرون{[939]} أن الآيات نزلت بمناسبة قول الوليد بن المغيرة من زعماء قريش لو كانت النبوة حقا لكنت أولى منك بها ؛ لأني أكبر منك سنا وأكثر مالا ، أو بمناسبة قول أبي جهل : ( زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إنا صرنا كفرسي رهان فقالوا : منا نبي يوحى إليه ، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه ) . والرواية متسقة مع مضمون الآيات . وفي سورة ص آية تحكي تساؤل زعماء الكفار بأسلوب الاستكبار والإنكار عن اختصاص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنزول القرآن من دونهم وهي : { أأنزل عليه الذكر من بيننا } [ 8 ] ، وفي سورة الزخرف آية تحكي قول زعماء الكفار بأنه كان يجب أن ينزل القرآن على أحد عظماء مكة أو الطائف وهي : { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( 31 ) } حيث يفيد هذا أن مثل هذا القول الذي حكته الآيات قد صدر من زعماء المشركين أكثر من مرة وبأساليب مختلفة . غير أننا نلحظ أن الآيات هنا جاءت بأسلوب مطلق وتقريري ومعطوفة على ما قبلها حيث يلهم هذا أنها استمرار في السياق وفي صدد الإشارة إلى زعماء المشركين وكبار مجرمي مكة الذين تولوا كبر المعارضة والتعطيل للرسالة النبوية بصورة عامة ، وفي صدد وصف شدة مكابرتهم وعنادهم . وإن كان هذا لا يمنع أن كان بعضهم حينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبر بوحي الله إليه وبصلته به وبما يراه من تجليات ربانية ويتلوا آيات القرآن يتخذ ذلك وسيلة إلى العناد والمكابرة والتعجيز حسدا ومنافسة ، ويعلن أنه لن يصدق ما لم يدرك هذا بنفسه وتقوم عليه الدلائل في ذاته . وعلى كل حال ففي الآيات صورة جديدة من صور الحجاج واللجاج والتحدي بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزعماء المشركين .

وفي أسلوبها المطلق تلقينات مستمرة المدى ، ففيها تنديد بذوي الزعامة والوجاهة الذين يقفون من الدعوة إلى الخير والإصلاح وأصحابها موقف اللجاج والتعطيل والصد والتعجيز استكبارا وحسدا وغيظا ، وفيها تثبيت لأصحاب مثل هذه الدعوة وتشجيع لهم بتقرير كون مكر الماكرين الصادين المعطلين حائقا بهم وحدهم . وفيها تنبيه إلى مسؤولية الزعماء وما ترتكس فيه أممهم من الآثام والانحراف بسبب مكرهم وإجرامهم وعنادهم ومكابرتهم ؛ لأنهم القدوة والأسوة . ولعله مما ينطوي في نطاق مصالحهم ومآربهم ، فهم مجرمون ماكرون ولا ينبغي الرضوخ لهم والسير في فلكهم .

وفي جملة { اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه } رد مفحم حاسم من جهة ، وتنويه بالغ بقدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخصائصه من جهة أخرى . فمرتبة النبوة من أعظم المراتب التي لا يوصل إليها إلا بأعظم الخصائص الروحية والعقلية . والذين يختارهم الله تعالى لرسالته وتجلياته تكون هذه الخصائص قد بلغت فيهم إلى الدرجة العالية من الكمال . وينطوي في هذا وصف تقريري عظيم لما بلغته خصائص النبي العربي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم الخلقية والعقلية والإنسانية من مرتبة عالية حتى صار بها مظهرا لاصطفاء الله تعالى وتجلياته . وكفى به وصفا يزري بكل ما يصفه به الناس ، وقد كانت آية سورة القلم { وإنك لعلى خلق عظيم ( 4 ) } تعبيرا قرآنيا جليلا عن هذه الخصائص التي تحققت فيه قبل بعثته وتأهل بها للاصطفاء الرباني على ما شرحناه في مناسبته .

ولقد احتوى القرآن إشارات عديدة إلى ما ظهر وظل يظهر من عظمة أخلاق وكمال صفات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبره وإشفاقه وعمق إيمانه وصميمته ما بلغ الذروة التي تفسر أسباب اصطفاء الله تعالى له للرسالة العظمى ، مما نبهنا عليه في سور سبق تفسيرها ومما سوف ننبه عليه في ما يأتي من السور .

وفي كتب الأحاديث أحاديث كثيرة جدا فيها ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كمال الأخلاق والصفات مما بلغ الذروة كذلك وفيها مصداق ذلك أيضا{[940]} .


[939]:انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والطبرسي.
[940]:انظر ما ورد في الأحاديث الصحيحة الخمسة في التاج مثلا ج 3 ص 204 – 220. وهذه الأحاديث هي في صدد أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته وحسبه. وهناك أحاديث كثيرة جدا في هذه الكتب فيها من أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونواهيه ومواعظه وحكمه ومعالجاته لمختلف ما كان يعرض عليه من شؤون نفسية واجتماعية وأخلاقية وسلوكية وقضائية ما يصح أن يكون مظهرا بالغ الذروة من مظاهر صفاته وأخلاقه أيضا.