إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا فِي كُلِّ قَرۡيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجۡرِمِيهَا لِيَمۡكُرُواْ فِيهَاۖ وَمَا يَمۡكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (123)

{ وكذلك } قيل : معناه كما جعلنا في مكةَ أكابرَ مجرميها ليمكروا فيها { جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ } من سائر القرى { أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا } ومفعولا جعلنا أكابرَ مجرميها على تقديم المفعولِ الثاني والظرفُ لغو أو هما الظرفُ وأكابرَ على أن مجرميها بدلٌ أو مضافٌ إليه فإن أفعل التفضيل إذا أُضيف جاز الإفرادُ والمطابقةُ ولذلك قرئ أكبرَ مجرميها وقيل : أكابرَ مجرميها مفعولُه الأولُ والثاني ليمكروا فيها ، ولا يخفى أن أيَّ معنى يراد من هذه المعاني لابد أن يكون مشهورَ التحققِ عند الناسِ معهوداً فيما بينهم حتى يصلُحَ أن تُصرَفَ الإشارةُ عن سباق النظمِ الكريمِ وتوجَّهَ إليه ويُجعلَ مقياساً لنظائره بإخراجه مُخرجَ المصدرِ التشبيهيِّ وظاهرٌ أنْ ليس الأمرُ كذلك ولا سبيلَ إلى توجيهها إلى ما يفهم من قوله تعالى : { كَذَلِكَ زُيّنَ للكافرين مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الأنعام ، الآية 122 ] وإن كان المرادُ بهم أكابرَ مكةَ لأن مآلَ المعنى حينئذ بعد اللتيا والتي كما جعلنا أعمالَ أهلِ مكةَ مزينةً لهم جعلنا في كل قرية أكابرَ مجرميها الخ ، فإذن الأقربُ أن ذلك إشارةٌ إلى الكفَرة المعهودين باعتبار اتصافِهم بصفاتهم ، والإفرادُ بتأويل الفريقِ أو المذكور ، ومحلُّ الكافِ النصبُ على أن المفعولُ الثاني لجعلنا قدم عليه لإفادة التخصيصِ كما في قوله تعالى : { كذلك كُنتُمْ من قَبْلُ } [ النساء ، الآية 94 ] ، والأولُ أكابرَ مجرميها ، والظرف لغة أي ومثلَ أولئك الكفرةِ الذين هم صناديدُ مكةَ ومجرموها جعلنا في كل قريةٍ أكابرَها المجرمين أي جعلناهم متصفين بصفات المذكورين مزيَّناً لهم أعمالُهم مُصِرّين على الباطل مجادلين به الحقَّ ليمكروا فيها أي ليفعلوا المكرَ فيها ، وهذا تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى : { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ } اعتراضٌ على سبيل الوعدِ لرسول الله عليه الصلاة والسلام والوعيدِ للكفرة أي وما تحيقُ غائلةُ مكرِهم إلا بهم { وَمَا يَشْعُرُونَ } حال من ضمير يمكرون مع اعتبار ورودِ الاستثناءِ على النفي أي إنما يمكرون بأنفسهم والحالُ أنهم ما يشعُرون بذلك أصلاً بل يزعُمون أنهم يمكرون بغيرهم .