اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا فِي كُلِّ قَرۡيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجۡرِمِيهَا لِيَمۡكُرُواْ فِيهَاۖ وَمَا يَمۡكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (123)

قيل " كذلك " نَسَقٌ على " كَذَلِكَ " قبلها ففيها ما فيها .

وقدَّرَهُ الزَّمْخَشَرِيُّ{[15101]} بأنّ معناه : " وكما جعلنا في مكَّةَ المشرفةِ صَنَاديدَهَا لِيَمْكُرُوا " فيها ، " كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها " واللام في " ليمكُروا " يجوزُ أن تكون للعاقبة ؛ وأنْ تكونَ للعلَّة مَجَازاً ، و " جَعَلَ " تَصْييريَّة ، فتتعدَّى لاثنَيْنِ ، واختُلِف في تقديرهما : والصحيحُ أن تكُونَ " فِي كلّ قَرْيةٍ " مَفْعُولاً ثانياً قُدِّم على الأوَّل ، والأولُ " أكابِر " مُضَافاً لمجرميها .

الثاني : أنَّ " فِي كُلَّ قَرْيَةٍ " مفعولٌ – أيضا - مقدَّمٌ ، و " أكَابِر " هو الأول ، و " مُجْرِمِيهَا " بدلٌ من " أكَابِر " ؛ ذكر ذلك أبُو البقاء{[15102]} .

الثالث : أن يكُون " أكَابِر " معفولاً ثانياً قُدِّم ، و " مُجْرِيمها " مَفْعُولٌ أول أخِّر ، والتقديرُ : جَعَلنا في كُلِّ قريةٍ مجرميها أكَابِرَ ، فيتعلق الجارُّ بنفسِ الفِعْلِ قبله ؛ ذكر ذلك ابنُ عَطِيَّة{[15103]} .

قال أبُو حيَّان{[15104]} : " وما أجَازَاهُ - يعني : أبَا البَقَاءِ ، وابنُ عَطيَّةَ - خطأٌ وذهولٌ عن قاعدةٍ نَحْويَّةٍ ، وهي أنَّ أفْعَلَ التفضيلِ إذا كانت ب " مِنْ " مَلْفُوظاً بها ، أو مقدرةً ، أو مُضَافة إلى نِكَرَة كانت مُفردةً مذكرة على كُل حالٍ ، سواءٌ كانت لمذكر ، أم مؤنث ، مُفْرَدٍ أم مُثَنى أمْ مَجْمُوعٍ ، وإذا ثُنِّيَتْ أو جُمِعَتْ أو أنِّثَتْ وطابَقَتْ ما هي له ، لَزِمَها أحَدُ أمْرَيْنِ : إمَّا الألف واللام ، وإمَّا الإضافة لمعرفة .

وإذا تقرَّرَ ذلك ، فالقولُ بكوْنِ " مُجْرِميهَا " بدلاً ، أو بكونه مفعولاً أول ، و " أكابر " مَفعولٌ ثانٍ- خَطَأٌ ؛ لاسْتلْزام أنْ يبقى " أكَابِرَ " مَجْمُوعاً وليست في ألِفٌ ولامٌ ، ولا هِيَ مُضَافة لمعرفةٍ " . قال : " وقد تنبَّه الكرمَانِيُّ إلى هذه القاعدة فقال : أضَاف " أكَابِر " إلى " مُجْرِميها " لأن أفْعَلَ لا يُجْمَعُ إلاَّ مع الألفِ واللامِ ، أو مع الإضافة " .

قال أبُو حيَّان{[15105]} : " وكان يَنْبَغِي أنْ يُقَيَّد بالإضافة إلى معرفةٍ " .

قال شهابُ الدِّين{[15106]} : أما هذه القاعدةُ فمسلمة ، ولكن قد ذكر مكِّي{[15107]} مِثْلَ ما ذُكِر عن ابْن عَطيَّة سواء ، وما أظُنّه أخذ إلاَّ منه ، وكذلك الواحديُّ أيضاً ، ومنع أنْ تُجوَّز إضافةُ " أكَابر " إلى مجرميها " ؛ قال رحمه الله : " والآية على التَّقْديمِ ، والتأخير تقديرُه : " جَعَلْنَاه مُجْرِميها أكَابر " ولا يجوز أن تكون الأكَابِر مضافةً ؛ لأنه لا يتمُّ المعنى ، ويحتاجُ إلى إضْمار المفعول الثاني للجعل ؛ لأنك إذا قلت : " جعلتُ زَيْداً " وسكتَّ لم يُفِد الكلامُ حتى تقول : رَئِيساً أو دليلاً ، أو ما أشبه ذلك ، ولأنَّك إذا أضَفْتَ الأكَابِر ، فقد أضَفْتَ النعتَ إلى المنعوت ؛ وذلك لا يجوزُ عند البَصْريِّين " .

قال شهابُ الدِّين{[15108]} : هذان الوجْهَانِ اللذان ردِّ بهما الواحديُّ لَيْسَا بِشَيْءٍ .

أمَّا الأولُ فلا نسلم أنا نُضْمِرُ المعفول الثاني ، وأنه يَصِيرُ الكلامُ غيرَ مُفِيد ، وأمَّا ما أوْرَده من الأمْثِلَةِ ، فليس مُطَابِقاً ؛ لأنَّا نقولُ : إنَّ المفعول الثَّانِي- هنا - مذكورٌ مصرّحٌ به ، هو الجارُّ والمجرورُ السابقُ .

وأما الثاني : فلا نُسَلِّم أنه من باب إضافة الصّفة لموصوفها ؛ لأن المجرمين أكابر وأصاغر ، فأضاف للبيان لا لقصد الوصف .

الرابع : أن المفعول الثاني محذوفٌ ، قالوا : وتقديرُه : " جعلنا في كُلِّ قرية أكَابر مُجْرميها فُسَّاقاً لِيَمْكُرُوا " وهذا لَيْس بِشَيءٍ ؛ لأنه لا يحذفُ شيء إلاَّ لدليلٍ ، والدليلُ على ما ذكروه غيرُ واضحٍ .

وقال ابنُ عطيَّة{[15109]} : " ويقالُ أكابرة كما يقالُ أحْمر وأحَامِرةَ " ؛ قال الشاعر : [ الكامل ]

إنَّ الأحَامِرَة الثَّلاثةَ أتْلَفَتْ *** مَالِي وَكُنْتُ بِهِنَّ قِدْماً مُؤْلَعاَ{[15110]}

قال أبو حيان{[15111]} : " ولا أعْلَمُ أحَداً أجاز في جَمْع أفْضَل أفَاضِلَة ، بل نَصَّ النحويون على أن : أفْعَل التَّفْضِيل يجمعُ للمذكَّرِ على الأفضَلِين ، أو على الأفاضل " .

قال شهابُ الدين{[15112]} : وهذه التاءُ يذكرها النحويونُ أنها تكون دَالَّةً على النسب في مِثْلِ هذه البنية ، قالوا : الأزَارَقَة ، والأشاعِثَة ، وفي الأزْرَقِ ورهطه ، والأشْعَث وبنيه ، وليس بقياسٍ ، ولَيْس هذا مِنْ ذلك في شَيْءٍ .

والجمهورُ على " أكَابِرَ " جَمْعاً .

وقرأ{[15113]} ابنُ مُسْلِم : " أكبر مجرميها " بالإفْرَادِ ، وهو جائِزٌ ، وذلك أنَّ أفعل التفضيل إذا أضيفت لمعرفة وأُريد بها غيرُ الإفْرَادِ ، والتذكير ؛ جاز أنْ يُطابِق ، كالقراءةِ المشهُورةِ هنا ، وفي الحديث : " أحَاسنكم أخلاقاً " {[15114]} وجاز أن يُفْرَد ، وقد أُجْمِعَ على ذلك في قوله : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس } [ البقرة : 96 ] .

فصل

قال الزجاجُ : إنما جعل المجرمينَ أكَابر لأنهم لأجْل رياستهم أقْدَر على المكْرِ [ والغدْرِ ]{[15115]} ، وترويج الأبَاطيل على الناسِ مِنْ غيرهم ، ولأن كثرة المالِ ، والجاهِ تحمل الناس على المبالغة في حفظها ، وذلك الحفظ لا يتمّ إلا بجميع الأخلاق الذميمة : من الغَدْرِ ، والمكْرِ ، والكَذِب ، والغَيْبةِ ، والنمِيمَةِ ، والأيْمانِ الكَاذِبَة ، ولو لم يكُنْ للمالِ والجَاهِ سِوَى أنَّ اللَّه- تبارك وتعالى- وصف بهذه الصفاتِ الذَّميمةِ مَنْ كان له مالٌ وجاه لكفى ذلك دَلِيلاً على خَسَاسَةِ المال والجاه .

قوله : { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } .

والمرادُ ما ذكره الله تعالى في قوله : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السّيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] .

واعلَمْ أنَّ سُنّة الله [ - تبارك و ] تعالى - أنه يجعلُ في كُلِّ قريةٍ اتباعَ الرسل ضعافهم لقوله في قصة نُوح- عليه الصلاة والسلام- : { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] وجعل فساقهم أكابرهم ليمْكُروا فيها ، وذلك أنهم أجْلَسُوا في كُلِّ طَريقٍ من طُرُقِ مكَّةَ [ المشرفَة ]{[15116]} أرْبَعَةً نَفَرٍ{[15117]} لِيصْرِفُوا النَّاسَ عن الإيمانِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم يقولُونَ لكل مَنْ يقدَمُ : إياكم وهذا الرجُلَ ، فإنه كَاهِنٌ ، ساحِرٌ ، كذََّابٌ .

وقولُه : { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ } [ لأنَّ وبال مَكْرِهمْ عليهم وهم ما يشعرون أنه كذلك .

قال المعتزلة : " وما يَمْكُرونَ إلاَّ بِأنْفُسِهمْ " ]{[15118]} مذكورٌ في مَعْرض التهديد ، والزَّجْرِ ، فلو كان ما قبل هذه الآية الكريمةِ ، يدلُّ على أنه تعالى أرادَ مِنْهم أنْ يمكرُوا بالناسِِ - فكَيْفَ يلِيقُ بالرَّحيم الحَكِيم أنْ يُريد منهم المَكْرَ ، ويخلقه فيهم ، ثُمَّ يُهَدِّدُهُمْ عليه ، ويعاقِبُهُمْ أشَدَّ العِقابِ ، ومعارضتُهم تقدَّمَتْ مِرَاراً .


[15101]:ينظر: الإملاء 1/260.
[15102]:ينظر: المحرر الوجيز 2/341.
[15103]:ينظر: البحر المحيط 4/217.
[15104]:ينظر: البحر المحيط 4/217.
[15105]:ينظر: الدر المصون 3/171.
[15106]:ينظر: المشكل 1/287.
[15107]:ينظر: الدر المصون 3/171.
[15108]:المحرر الوجيز 2/341.
[15109]:البيت لأعشى وهو في المقرب (2/28)، الطبري 5/334، اللسان (حمر)، الدر المصون 3/172، والمحرر الوجيز 2/341، والبحر المحيط 4/17.
[15110]:ينظر: البحر المحيط 4/217.
[15111]:ينظر: الدر المصون 3/172.
[15112]:ينظر: الدر المصون 3/172، البحر المحيط 4/ 217.
[15113]:أخرجه الترمذي (1162) وأحمد (2/250) وأبو داود (4682) والحاكم (1/3) وابن حبان (4164 ـ الإحسان) من حديث أبي هريرة بلفظ: أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خيارهم لنسائهم.
[15114]:سقط في ب.
[15115]:سقط في ب.
[15116]:سقط في ب.
[15117]:سقط في أ.
[15118]:انظر تفسير الرازي (13/143).