قوله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب } ، يعني : التوراة والإنجيل .
قوله تعالى : { يعرفونه } ، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم بنعته ، وصفته .
قوله تعالى : { كما يعرفون أبناءهم } ، من بين الصبيان .
قوله تعالى : { الذين خسروا } ، غبنوا .
قوله تعالى : { أنفسهم فهم لا يؤمنون } ، وذلك أن الله جعل لكل آدمي منزلاً في الجنة ، ومنزلاً في النار ، فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة ، ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار ، وذلك الخسران .
ثم ساق القرآن شهادة ثالثة بصدق النبى صلى الله عليه وسلم وهى شهادة أهل الكتاب فقال { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } :
قال الجمل فى حاشيته على الجلالين : " روى أن النبى صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال له عمر : إن الله أنزل على نبيه بمكة : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ } فكيف هذه المعرفة ؟ فقال عبد الله بن سلام : يا عمر ، لقد عرفته حين كما أعرف ابنى ، ولأنا أشد معرفة بمحمد منى بابنى ! ! فقال عمر : كيف ذلك ؟ فقال : أشهد انه رسول الله حقاً ولا أدرى ما تصنع النساء " .
والمعنى : إن علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، يعرفون صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معرفة تماثل معرفتهم لأبنائهم الذين هم من أصلابهم ، فهى معرفة بلغت حد اليقين وذلك بسبب ما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين ، فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته وبلده ومهاجره وصفة أمته .
والضمير فى { يَعْرِفُونَهُ } يرى أكثر المفسرين أنه يعود على النبى صلى الله عليه وسلم ويؤيد ذلك سبب نزول الآية ، ويرى بعضهم أنه يعود على القرآن لتقدمه فى قوله { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن } أو على التوحيد لدلالة قوله { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } .
والأولى عودة الضمير على جميع ما ذكر ، لأن معرفتهم بما فى كتابهم يتناول كل ذلك .
ثم بين - سبحانه - علة إنكار المكابرين منهم لما يعرفونه من أمر نبوته صلى الله عليه وسلم فقال : { الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ } من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } به جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على الله بما لا حجة عليه ، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح حيث قالوا : { لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } وقالوا { والله أَمَرَنَا بِهَا } وقالوا : " الملائكة بنات الله " ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب ، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحراً ولم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم .
وهذه الآية الكريمة من الآيات التى قيل أنها مدنية ، والصحيح أنها مكية ، ويشهد لذلك سبب النزول الذى سقناه عن عمر - رضى الله عنه - فقد قال لعبد الله بن سلام : " إن الله أنزل على نبيه بمكة " إلخ .
ويؤكد كونها مكية - أيضا - سياق الآيات قبلها ، فالآية التى قبلها وهى قوله - تعالى - : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً } . إلخ . فيها شهادة من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأنه صادق فيما يبلغه عن ربه ، والآية التى معنا فيها شهادة من أهل الكتاب بأنهم يعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، ومن المعروف أن أهل مكة كانوا يسألون أهل الكتاب عن النبى صلى الله عليه وسلم وفضلا عن ذلك لم يرد نص صحيح يثبت أن هذه الآية الكريمة قد نزلت بالمدينة .
قال بعض العلماء : ويظهر أنهم - أى القائلون بأن الآية مدنية - لما وجدوا الحديث فى هذه الآية عن أهل الكتاب ، ووجدوا أن هذه الآية نظيرة لآية أخرى مدنية تبدأ بما بدأت به ، وهى قوله - تعالى - : فى سورة البقرة
{ الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } الاية 146 ، ومن المعروف أن صلة الإسلام بأهل الكتاب إنما كانت بعد الهجرة وفى المدينة دون مكة ، لما وجدوا هذا قرروا أن الآية مدنية ، فالمسألة ليست إلا اجتهاداً حسب رواية مسندة ، وهو اجتهاد غير صحيح .
ولما كان هذا الخسران أكبر ظلم ظلم به هؤلاء الكفار أنفسهم فقد قال - تعالى - فى شأنهم : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } .
ثم قال مخبرًا عن أهل الكتاب : إنهم يعرفون هذا الذي جئتهم{[10605]} به كما يعرفون أبناءهم ، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء ، فإن الرسل كلهم بَشَّروا بوجود محمد{[10606]} صلى الله عليه وسلم وببعثه{[10607]} وصفتة ، وبلده ومُهَاجَرِه ، وصفة أمته ؛ ولهذا قال بعد هذا : { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } أي : خسروا كل الخسارة ، { فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء ، ونوهت به في قديم الزمان وحديثه .
جملة مستأنفة انتقل بها أسلوب الكلام من مخاطبة الله المشركين على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إخبار عامّ كسائر أخبار القرآن . أظهر الله دليلاً على صدق الرسول فيما جاء به بعد شهادة الله تعالى التي في قوله { قل الله شهيد بيني وبينكم } [ الأنعام : 19 ] ، فإنّه لمَّا جاء ذكر القرآن هنالك وقع هذا الانتقال للاستشهاد على صدق القرآن المتضمّن صدق من جاء به ، لأنّه هو الآية المعجزة العامَّة الدائمة . وقد علمت آنفاً أنّ الواحدي ذكر أنّ رؤساء المشركين قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم قد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك إلى آخره ؛ فإذا كان كذلك كان التعرّض لأهل الكتاب هنا إبطالاً لما قالوه أنّه ليس عندهم ذكر النبي ولا صفته ، أي فهم وأنتم سواء في جحد الحقّ ، وإن لم تجعل الآية مشيرة إلى ما ذكر في أسباب النزول تعيّن أن تجعل المراد بِ { الذين آتيناهم الكتاب } بعض أهل الكتاب ، وهم المنصفون منهم مثل عبد الله بن سلام ومخيريق ، فقد كان المشركون يقدُرون أهل الكتاب ويثقون بعلمهم وربما اتّبع بعض المشركين دين أهل الكتاب وأقلعوا عن الشرك مثل ورقة بن نوفل ، فلذلك كانت شهادتهم في معرفة صحّة الدين موثوقاً بها عندهم إذا أدّوها ولم يكتموها . وفيه تسجيل على أهل الكتاب بوجوب أداء هذه الشهادة إلى الناس .
فالضمير المنصوب في قوله : { يعرفونه } عائد إلى القرآن الذي في قوله : { وأوحي إليّ هذا القرآن } [ الأنعام : 19 ] . والمراد أنَّهم يعرفون أنّه من عند الله ويعرفون ما تضمّنه ممّا أخبرت به كتبهم ، ومن ذلك رسالة من جاء به ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم لما في كتبهم من البشارة به . والمراد بالذين أوتوا الكتاب علماء اليهود والنصارى كقوله تعالى : { قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } [ الرعد : 43 ] .
والتشبيه في قوله : { كما يعرفون أبناءهم } تشبيه المعرفة بالمعرفة . فوجه الشبه هو التحقّق والجزم بأنّه هو الكتاب الموعود به ، وإنّما جعلت المعرفة المشبّه بها هي معرفة أبنائهم لأن المرء لا يضلّ عن معرفة شخص ابنه وذاته إذا لقيه وأنّه هو ابنه المعروف ، وذلك لكثرة ملازمة الأبناء آباءهم عرفاً .
وقيل : إنّ ضمير { يعرفونه } عائد إلى التوحيد المأخوذ من قوله : { إنّما هو إله واحد } [ الأنعام : 19 ] وهذا بعيد . وقيل : الضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنّه لم يجر له ذكر فيما تقدّم صريحاً ولا تأويلاً . ويقتضي أن يكون المخاطب غير الرسول صلى الله عليه وسلم وهو غير مناسب على أنّ في عوده إلى القرآن غنية عن ذلك مع زيادة إثباته بالحجَّة وهي القرآن .
وقوله : { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } استئناف لزيادة إيضاح تصلّب المشركين وإصرارهم ، فهم المراد بالذين خسروا أنفسهم كما أريدوا بنظيره السابق الواقع بعد قوله { ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } [ النساء : 87 ] . فهذا من التكرير للتسجيل وإقامة الحجَّة وقطع المعذرة ، وأنّهم مصرّون على الكفر حتى ولو شهد بصدق الرسول أهل الكتاب ، كقوله { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم } [ الأحقاف : 10 ] . وقيل : أريد بهم أهل الكتاب ، أي الذين كتموا الشهادة ، فيكون { الذين خسروا } بدلاً من { الذين آتيناهم الكتاب } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وأنزل في قولهم: لقد سألنا عنك أهل الكتاب، فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر، فقال: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه}، أي صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم {كما يعرفون أبناءهم}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
الذين آتيناهم الكتاب التوراة والإنجيل، يعرفون أنما هو إله واحد لا جماعة الآلهة، وأن محمدا نبيّ مبعوث، كما يعرفون أبناءهم. وقوله:"الّذِينَ خَسِروا أنْفُسَهُمْ" من نعت «الذين» الأولى، ويعني بقوله: "خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ": أهلكوها وألقوها في نار جهنم بإنكارهم محمدا أنه لله رسول مرسل، وهم بحقيقة ذلك عارفون "فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ "يقول: فهم بخسارتهم بذلك أنفسهم لا يؤمنون. وقد قيل: إن معنى خسارتهم أنفسهم: أن كل عبد له منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا كان يوم القيامة جعل الله لأهل الجنة منازل أهل النار في الجنة، وجعل لأهل النار منازل أهل الجنة في النار، فذلك خسران الخاسرين منهم لبيعهم منازلهم من الجنة بمنازل أهل الجنة من النار، بما فرط منهم في الدنيا من معصيتهم الله وظلمهم أنفسهم، وذلك معنى قول الله تعالى: "الّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسِ هُمْ فِيها خالِدُونَ".
عن قتادة، قوله: "الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابٍ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ": يعرفون أنّ الإسلام دين الله، وأن محمدا رسول الله، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أحاط علمُهم بصدقِ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في نُبوَّتِه، ولكن أدركتهم الشقاوة الأزلية فعقدت ألسنتهم عن الإقرار به؛ فجحدوه جهراً، وعلموا صِدْقَه سِرًّا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والضمير في {يعرفونه} عائد في بعض الأقوال على التوحيد لقرب قوله: {قل إنما هو إله واحد} [الأنعام: 19] وهذا استشهاد في ذلك على كفرة قريش والعرب بأهل الكتاب، و {الذين خسروا} على هذا التأويل منقطع مرفوع بالابتداء وليس من صفة {الذين} الأولى، لأنه لا يصح أن يستشهد بأهل الكتاب ويذمون في آية واحدة... وقالت فرقة: الضمير من {يعرفونه} عائد على القرآن المذكور قبل.
ويصح أن تعيد الضمير على هذه كلها دون اختصاص، كأنه وصف أشياء كثيرة، ثم قال: أهل الكتاب {يعرفونه} أي ما قلنا وما قصصنا وقوله تعالى: {الذين خسروا} الآية، يصح أن يكون {الذين} نعتاً تابعاً ل {الذين قبله}، والفاء من قوله {فهم} عاطفة جملة على جملة، وهذا يحسن على تأويل من رأى في الآية قبلها أن أهل الكتاب متوعدون مذمومون لا مستشهد بهم...
اعلم أنا روينا في الآية الأولى أن الكفار سألوا اليهود والنصارى عن صفة محمد عليه الصلاة والسلام فأنكروا دلالة التوراة والإنجيل على نبوته، فبين الله تعالى في الآية الأولى أن شهادة الله على صحة نبوته كافية في ثبوتها وتحققها، ثم بين في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم أنا لا نعرف محمدا عليه الصلاة والسلام، لأنهم يعرفونه بالنبوة والرسالة كما يعرفون أبناءهم لما روي أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام: أنزل الله على نبيه هذه الآية فكيف هذه المعرفة، فقال يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني، لأني لا أدري ما صنع النساء، وأشهد أنه حق من الله تعالى. واعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون علمهم بنبوة محمد عليه السلام مثل علمهم بأبنائهم، وفيه سؤال وهو أن يقال: المكتوب في التوراة والإنجيل مجرد أنه سيخرج نبي في آخر الزمان يدعو الخلق إلى الدين الحق، أو المكتوب فيه هذا المعنى مع تعين الزمان والمكان والنسب والصفة والحلية والشكل، فإن كان الأول فذلك القدر لا يدل على أن ذلك الشخص هو محمد عليه السلام، فكيف يصح أن يقال: علمهم بنبوته مثل علمهم ببنوة أبنائهم، وإن كان الثاني وجب أن يكون جميع اليهود والنصارى عالمين بالضرورة من التوراة والإنجيل بكون محمد عليه الصلاة والسلام نبيا من عند الله تعالى، والكذب على الجمع العظيم لا يجوز لأنا نعلم بالضرورة أن التوراة والإنجيل ما كانا مشتملين على هذه التفاصيل التامة الكاملة، لأن هذا التفصيل إما أن يقال: إنه كان باقيا في التوراة والإنجيل حال ظهور الرسول عليه الصلاة والسلام أو يقال: إنه ما بقيت هذه التفاصيل في التوراة والإنجيل في وقت ظهوره لأجل أن التحريف قد تطرق إليهما قبل ذلك، والأول باطل لأن إخفاء مثل هذه التفاصيل التامة في كتاب وصل إلى أهل الشرق والغرب ممتنع، والثاني أيضا باطل، لأن على هذا التقدير لم يكن يهود ذلك الزمان، ونصارى ذلك الزمان عالمين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم علمهم ببنوة أبنائهم، وحينئذ يسقط هذا الكلام. والجواب عن الأول: أن يقال المراد ب {الذين ءاتيناهم الكتاب} اليهود والنصارى، وهم كانوا أهلا للنظر والاستدلال، وكانوا قد شاهدوا ظهور المعجزات على الرسول عليه الصلاة والسلام، فعرفوا بواسطة تلك المعجزات كونه رسولا من عند الله، والمقصود من تشبيه إحدى المعرفتين بالمعرفة الثانية هذا القدر الذي ذكرناه. أما قوله {الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} ففيه قولان: الأول: أن قوله {الذين} صفة للذين الأولى، فيكون عاملهما واحدا ويكون المقصود وعيد المعاندين الذين يعرفون ويجحدون. والثاني: أن قوله الذين خسروا أنفسهم ابتداء. وقوله {فهم لا يؤمنون} خبره، وفي قوله {الذين خسروا} وجهان: الأول: أنهم خسروا أنفسهم بمعنى الهلاك الدائم الذي حصل لهم بسبب الكفر والثاني: جاء في التفسير أنه ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله منزلة في الجنة، فمن كفر صارت منزلته إلى من أسلم فيكون قد خسر نفسه وأهله بأن ورث منزلة غيره...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أثبت شهادة الله تعالى له بالتصديق بأنه محق، وكان ذلك ربما أوهم أن غير الله تعالى لا يعرف ذلك، لا سيما وقد ادعى كفار قريش أنهم سألوا أهل الكتابين فادعوا أنهم لا يعرفونه، أتبعه بقوله على طريق الاستئناف: {الذين آتيناهم} أي بما لنا من العظمة من اليهود والنصارى {الكتاب} أي الجامع لخيري الدنيا والآخرة، وهو التوراة والإنجيل {يعرفونه} أي الحق الذي كذبتم به لما جاءكم وحصل النزاع بيني وبينكم فيه لما عندهم في كتابهم من وصفي الذي لا يشكون فيه، ولما هم بمثله آنسون مما أثبت به من المعجزات، ولما في هذا القرآن من التصديق لكتابهم والكشف لما أخفوا من أخبارهم، ولأساليبه التي لا يرتابون في أنها خارجة من مشكاة كتابهم مع زيادتها بالإعجاز، فهم يعرفون هذا الحق {كما يعرفون أبناءهم} أي من بين الصبيان بحُلاهم ونعوتهم معرفة لا يشكون فيها، وقد وضعتموهم موضع الوثوق، وأنزلتموهم منزلة الحكم بسؤالكم لهم عني غير مرة، وقد آمن بي جماعة منهم وشهدوا لي، فما لكم لا تتابعونهم! لقد بان الهوى وانكشف عن ضلالكم الغطاء.
ولما كان أكثرهم يخفون ذلك ولا يشهدون به، قال جواباً لمن يسأل عنهم: {الذين خسروا} أي منهم، ولكنه حذفها للتعميم {أنفسهم فهم} أي بسبب ذلك {لا يؤمنون} أي لما سبق لهم من القضاء بالشقاء الذي خسروا به أنفسهم بالعدول عما دعت إليه الفطرة السليمة والفكرة المستقيمة، ومن خسر نفسه فهو لا يؤمن فكيف يشهد! فقد بينت هذه الجملة أن من لا يشهد منهم فهو في الحقيقة ميت أو موات، لأن من ماتت نفسه كذلك، بل هم أشقى منه، فلقد أداهم ذلك الشقاء إلى أن حرفوا كتابهم وأخفوا كثيراً مما يشهد لي بالنبوة، فكانوا أظلم الخلق بالكذب في كتاب الله للتكذيب لرسل الله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه الجولة -أو هذه الموجه- عودة إلى مواجهة المشركين المكذبين بالقرآن الكريم، المكذبين بالبعث والآخرة.. ولكنها لا تواجههم بتصوير تعنتهم وعنادهم؛ ولا تواجههم بمصارع الغابرين من المكذبين من أسلافهم -كما سبق في سياق السورة- إنما تواجههم بمصيرهم في يوم البعث الذي يكذبون به؛ وبجزائهم في الآخرة التي ينكرونها.. تواجههم بهذا الجزاء وبذلك المصير في مشاهد حية شاخصة.. تواجههم به وهم محشورون جميعا، مسؤولون سؤال التبكيت والتأنيب، وسؤال التشهير والتعجيب: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ وهم في رعب وفزع، وفي تضعضع وذهول يقسمون بالله ويعترفون له وحده بالربوبية: (والله ربنا ما كنا مشركين)!.. وتواجههم به وهم موقوفون على النار، محبوسون عليها، وهم في رعب وفزع، وفي ندم وحسرة يقولون: (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين)!.. وتواجههم به وهم موقوفون على ربهم، وهم يتذاوبون من الخجل والندم، ومن الروع والهول؛ وهو -جل جلاله- يسألهم سبحانه: (أليس هذا بالحق؟) فيجيبون في استخذاء وتذاوب: (بلى وربنًا). فلا يجديهم هذا الاعتراف شيئا: (قال:فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون).. ويواجهون به وهم قد خسروا أنفسهم وخسروا كل شيء إذن؛ وجاءوا يحملون أوزارهم على ظهورهم؛ وهم يجأرون بالحسرة على تفريطهم في الأخرة، وأخذهم للصفقة الخاسرة! مشهد وراء مشهد، وكل مشهد يزلزل القلوب، ويخلخل المفاصل، ويهز الكيان، ويفتح العين والقلب -عند من يشاء الله أن يفتح عينه وقلبه- على الحق الذي يواجههم به رسول الله صلى الله عليه وسلم والكتاب الذي يكذبون به؛ بينما الذين أوتوا الكتاب من قبلهم يعرفونه كما يعرفون أبنائهم!
(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) لقد تكرر في القرآن الكريم ذكر معرفة أهل الكتاب -وهم اليهود والنصارى- لهذا القرآن؛ أو لصحة رساله محمد صلى الله عليه وسلم وتنزيل هذا القرآن عليه من عند الله.. تكرر ذكر هذه الحقيقة سواء في مواجهة أهل الكتاب أنفسهم، عندما كانوا يقفون من النبي صلى الله عليه وسلم ومن هذا الدين وقفة المعارضة والإنكار والحرب والعداء [وكان هذا غالبا في المدينة] أو في مواجهة المشركين من العرب؛ لتعريفهم أن أهل الكتاب، الذين يعرفون طبيعة الوحي والكتب السماوية، يعرفون هذا القرآن، ويعرفون صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه وحي أوحى به ربه إليه كما أوحى إلى الرسل من قبله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة مستأنفة انتقل بها أسلوب الكلام من مخاطبة الله المشركين على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إخبار عامّ كسائر أخبار القرآن. أظهر الله دليلاً على صدق الرسول فيما جاء به بعد شهادة الله تعالى التي في قوله {قل الله شهيد بيني وبينكم} [الأنعام: 19]، فإنّه لمَّا جاء ذكر القرآن هنالك وقع هذا الانتقال للاستشهاد على صدق القرآن المتضمّن صدق من جاء به، لأنّه هو الآية المعجزة العامَّة الدائمة. وقد علمت آنفاً أنّ الواحدي ذكر أنّ رؤساء المشركين قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم قد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك إلى آخره؛ فإذا كان كذلك كان التعرّض لأهل الكتاب هنا إبطالاً لما قالوه أنّه ليس عندهم ذكر النبي ولا صفته، أي فهم وأنتم سواء في جحد الحقّ، وإن لم تجعل الآية مشيرة إلى ما ذكر في أسباب النزول تعيّن أن تجعل المراد بِ {الذين آتيناهم الكتاب} بعض أهل الكتاب، وهم المنصفون منهم مثل عبد الله بن سلام ومخيريق، فقد كان المشركون يقدُرون أهل الكتاب ويثقون بعلمهم وربما اتّبع بعض المشركين دين أهل الكتاب وأقلعوا عن الشرك مثل ورقة بن نوفل، فلذلك كانت شهادتهم في معرفة صحّة الدين موثوقاً بها عندهم إذا أدّوها ولم يكتموها. وفيه تسجيل على أهل الكتاب بوجوب أداء هذه الشهادة إلى الناس...
وقوله: {الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} استئناف لزيادة إيضاح تصلّب المشركين وإصرارهم، فهم المراد بالذين خسروا أنفسهم كما أريدوا بنظيره السابق الواقع بعد قوله {ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} [النساء: 87]. فهذا من التكرير للتسجيل وإقامة الحجَّة وقطع المعذرة، وأنّهم مصرّون على الكفر حتى ولو شهد بصدق الرسول أهل الكتاب، كقوله {قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم} [الأحقاف: 10]. وقيل: أريد بهم أهل الكتاب، أي الذين كتموا الشهادة، فيكون {الذين خسروا} بدلاً من {الذين آتيناهم الكتاب}...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وانتقل كتاب الله بعد ذلك إلى ما أعلنه أهل الكتاب من تجاهل القرآن وتظاهر بإنكاره، بالرغم من أنهم يعرفون حقيقته معرفة اليقين دون الشك، فقد نقلت إليهم بشارة الأنبياء والرسل السابقين أخبار ظهور خاتم الأنبياء والمرسلين، وأخبار نزول خاتم الكتب المنزلة. وبذلك صح القول فيهم بأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وذلك مضرب المثل في المعرفة، فالآباء لا يجهلون صور أبنائهم الذين يعايشونهم، ولا يغيب عنهم شيء من ملامحهم وطباعهم، بل يعرفون أمرهم دون تردد ولا توقف، لكن ما استولى على "أهل الكتاب "من روح التعصب، وما سيطر عليهم من الأهواء والأغراض، وما أصابهم من الخيبة بانتقال الرسالة منهم إلى العرب من ذرية إسماعيل، أعمى أعينهم عن رؤية النور، فلم يهتدوا سبيلا، {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} {ومنهم من يستمع إليك، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا، وإن يروا كل آية لا يؤمنون بها، حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين}...
إذن فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتحم العالم بهذا الدين، بل عرف نبأ مقدمه وبعثه وصورته ونعته كل من له صلة بكتاب من كتب السماء. إنهم يعلمون أنه الرسول الخاتم الذي ختمت به أخبار السماء إلى الأرض. ولذلك يقول الحق سبحانه: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (20)}. إذن فرسول الله معلوم مقدما من أهل الكتاب كمعرفتهم لأبنائهم، ولكن بعضا منهم فضل السلطة الزمنية على الإيمان برسول الله فخسروا أنفسهم؛ لأن الخسارة – كما نعرف – هي ضياع لرأس المال أو نقصانه. وهم خسروا أنفسهم لأن تلك النفوس كان يجب أن تحرص على مصلحة الأرواح التي جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإصلاحها. إنهم بذلك قد منعوا الخير عن أنفسهم بتفضيل سلطان الدنيا الزائل على الإيمان بالله، وفي ذلك خيبة كبرى...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أمّا الذين قالوا: إِنّ أهل الكتاب لم يشهدوا لنبي الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإِنّ الآية التي بعدها ترد عليهم وتقول: (والذين أتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) أي أن معرفتهم به لا تقتصر على مبدأ ظهوره ودعوته فحسب، بل إِنّهم يعرفون حتى التفاصيل والخصائص وعلاماته الدقيقة أيضاً، وعليه، إِذا قال جمع من أهل مكّة: إِنّهم رجعوا إِلى أهل الكتاب فلم يجدوا عندهم علماً بالنّبي، فإِنّهم إمّا أن يكونوا قد كذبوا ولم يتحققوا من الأمر، أو أنّ أهل الكتاب قد أخفوا عنهم الحقائق ولم يطلعوهم عليها، وهذا الكتمان تشير إِليه آيات أُخرى من القرآن (لمزيد من التوضيح انظر المجلد الأوّل من هذا التّفسير في ذيل الآية (146) من سورة البقرة). والآية تعلن في آخر مقاطعها النتيجة النهائية: (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) أي أنّ الذين لا يؤمنون بالنّبي مع كل ما تحيطه من دلائل وعلامات واضحة هم فقط أُولئك الذين خسروا كل شيء في تجارة الحياة.