ثم فتح - سبحانه - بابه لكل تائب صادق في توبته فقال تعالى : { والذين عَمِلُواْ السيئات ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وآمنوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
والمعنى : والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعد فعلهم لها توبة صادقة نصوحا ، ورجعوا إلى الله - تعالى - معتذرين نادمين مخلصين الإيمان له ، فإن الله - تعالى - من بعد الكبائر التي أقلعوا عنها لساتر عليهم أعمالهم السيئة ، وغير فاضحهم بها ، رحيم بهم وبكل من كان مثلهم من التائبين .
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة - بعد أن دمغت بنى إسرائيل بما يستحقونه من تقريع وويعد - قد فتحت أمامهم وأمام غيرهم باب التوبة ليفيئوا إلى نور الحق ، وليتركوا ما انغمسوا فيه من ضلالات وجهالات .
ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل توبة عباده من أي ذنب كان ، حتى ولو كان من كفر أو شرك أو نفاق أو شقاق ؛ ولهذا عقب هذه القصة بقوله : { وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ } أي : يا محمد ، يا رسول الرحمة ونبي النور{[12149]} { مِنْ بَعْدِهَا } أي : من بعد تلك الفعلة { لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا أبان ، حدثنا قتادة ، عن عَزْرَة{[12150]} عن الحسن العُرَفي ، عن عَلْقَمة ، عن عبد الله بن مسعود ؛ أنه سئل عن ذلك - يعني عن الرجل يزني بالمرأة ، ثم يتزوجها - فتلا هذه الآية : { وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } فتلاها عبد الله عشر مرات ، فلم يأمرهم{[12151]} بها ولم ينههم عنها .
وقوله تعالى : { والذين عملوا السيئات } الآية ، تضمنت هذه الآية الوعد بأن الله عز وجل يغفر للتائبين ، والإشارة إلى من تاب من بني إسرائيل ، وفي الآية ترتيب الإيمان بعد التوبة ، والمعنى في ذلك أنه أرادوا وأمنوا أن التوبة نافعة لهم منجية فتمسكوا بها فهذا إيمان خاص بعد الإيمان على الإطلاق ، ويحتمل أن يريد بقوله : { وآمنوا } أي وعملوا عمل المؤمنين حتى وافوا على ذلك ، ويحتمل أن يريد التأكيد فذكر التوبة والإيمان إذ هما متلازمان ، إلا أن التوبة على هذا تكون من كفر ولا بد فيجيء «تابوا وآمنوا » بمعنى واحد ، وهذا لا يترتب في توبة المعاصي فإن الإيمان متقدم لتلك ولا بد وهو وتوبة الكفر متلازمان ، وقوله : { إن ربك } إيجاب ووعد مرج .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل قوله : «تابوا وآمنوا » أن يكون لم تقصد رتبة الفعلين على عرف الواو في أنها لا توجب رتبة ويكون { وآمنوا } بمعنى وهم مؤمنون قبل وبعد ، فكأنه قال ومن صفتهم أن آمنوا .
قوله : { والذين عملوا السيئات ثم تابوا } الآية اعتراض بأنهم إن تابوا وآمنوا يغفر الله لهم على عادة القرآن من تعقيب التهديد بالترغيب ، والمغفرة ترجع إلى عدم مؤاخذتهم بذنوبهم في عقاب الآخرة ، وإلى ارتفاع غضب الله عنهم في المستقبل ، والمراد بالسيئات : ما يشمل الكفر ، وهو أعظم السيّئات . والتوبةُ منه هي الإيمان .
وفي قوله : { من بعدها } في الموضعين حذف مضاف قبل ما أضيفت إليه ( بَعْد ) وقد شاع حذفهُ دل عليه { عملوا } أي من بَعد عَملها ، وقد تقدم الكلام على حذف المضاف مع ( بعد ) و ( قبل ) المضافين إلى مضاف للمضاف إليه عند قوله تعالى : { ثم اتخذتم العجل من بعده } في سورة البقرة ( 51 ) .
وحرف ( ثم ) هنا مفيد للتراخي ، وذلك إلجاء إلى قبول التوبة ، ولو بعد زمان طويل مملوء بفعل السيّئات .
وقوله : { من بعدها } تأكيد لمفاد المهلة التي أفادها حرف ( ثم ) وهذا تعريض للمشركين بأنهم إن آمنوا يغفر لهم ولو طال أمد الشرك عليهم .
وعطف الإيمان على التوبة ، مع أن التوبة تشمله من حيث إن الإيمان توبة من الكفر ، إما للاهتمام به ، لأنه أصل الاعتداد بالأعمال الصالحة عند الله تعالى كقوله : { وما أدراك ما العقبة فكّ رقبة إلى قوله : { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 12 17 ] . ولئلا يظن أن الإشراك لخطورته لا تنجي منه التوبة .
وإما أن يراد بالإيمان إيمان خاص ، وهو الإيمان بإخلاص ، فيشمل عمل الواجبات .
والخطاب في قوله : { إن ربك } لمحمد صلى الله عليه وسلم على الوجه الأظهر ، أو لموسى على جعل قوله : { إن الذين اتخذوا العجل } مقولاً من الله لموسى .
وفي تعريف المسند إليه بالإضافة توسل إلى تشريف المضاف إليه بأنه مربوب لله تعالى ، وفي ذكر وصف الربوبية هنا تمهيد لوصف الرحمة .
وتأكيد الخبر بإن ولام التوكيد وصيغتي المبالغة في { غفور رحيم } لمزيد الاهتمام به ترغيب للعصاة في التوبة ، وطرداً للقنوط من نفوسهم ، وإن عظمت ذنوبهم ، فلا يحسبوا تحديد التوبة بحد إذا تجاوزتْه الذنوب بالكثرة أو العِظَم لم تقبل منه توبة .
وضمير : { من بعدها } الثاني مبالغة في الامتنان بقبول توبتهم بعد التملّي من السيئات .
وحذف متعلق { غفور رحيم } لظهوره من السياق ، والتقدير : لغفور رحيم لهم . أو لكل من عمل سيّئة وتاب منها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا خبر من الله تعالى ذكره أنه قابل من كلّ تائب إليه من ذنب أتاه صغيرة كانت معصيته أو كبيرة، كفرا كانت أو غير كفر، كما قبل من عَبدة العجل توبتهم بعد كفرهم به بعبادتهم العجل وارتدادهم عن دينهم. يقول جلّ ثناؤه: والذين عملوا الأعمال السيئة ثم رجعوا إلى طلب رضا الله بإنابتهم إلى ما يحبّ مما يكره وإلى ما يرضى مما يسخط من بعد سيئ أعمالهم، وصدّقوا بأن الله قابل توبة المذنبين وتائب على المنيبين بإخلاص قلوبهم ويقين منهم بذلك، "لَغَفُورٌ "لهم، يقول: لساتر عليهم أعمالهم السيئة، وغير فاضحهم بها، "رحيم" بهم، وبكلّ من كان مثلهم من التائبين.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{والذين عَمِلُواْ السيئات} من الكفر والمعاصي كلها {ثُمَّ تَابُواْ} ثم رجعوا {مِن بَعْدِهَا} إلى الله واعتذروا إليه {وَءامَنُواْ} وأخلصوا الإيمان {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} من بعد تلك العظائم {لَغَفُورٌ} لستور عليهم محاء لما كان منهم {رَّحِيمٌ} منعم عليهم بالجنة. وهذا حكم عام يدخل تحته متخذو العجل ومن عداهم. عظَّم جنايتهم أولا ثم أردفها تعظيم رحمته، ليعلم أن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفوه وكرمه أعظم وأجلّ، ولكن لا بدّ من حفظ الشريطة: وهي وجوب التوبة والإنابة، وما وراءه طمع فارغ وأشعبية باردة لا يلتفت إليها حازم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {والذين عملوا السيئات...} تضمنت هذه الآية الوعد بأن الله عز وجل يغفر للتائبين، والإشارة إلى من تاب من بني إسرائيل، وفي الآية ترتيب الإيمان بعد التوبة، والمعنى في ذلك أنهم أرادوا وأمنوا أن التوبة نافعة لهم منجية فتمسكوا بها فهذا إيمان خاص بعد الإيمان على الإطلاق، ويحتمل أن يريد بقوله: {وآمنوا} أي وعملوا عمل المؤمنين حتى وافوا على ذلك، ويحتمل أن يريد التأكيد فذكر التوبة والإيمان إذ هما متلازمان، إلا أن التوبة على هذا تكون من كفر ولا بد فيجيء «تابوا وآمنوا» بمعنى واحد، وهذا لا يترتب في توبة المعاصي فإن الإيمان متقدم لتلك ولا بد وهو وتوبة الكفر متلازمان، وقوله: {إن ربك} إيجاب ووعد مرج.
هذه الآية تدل على أن السيئات بأسرها مشتركة في أن التوبة منها توجب الغفران، لأن قوله: {والذين عملوا السيئات} يتناول الكل. والتقدير: أن من أتى بجميع السيئات ثم تاب فإن الله يغفرها له، وهذا من أعظم ما يفيد البشارة والفرح للمذنبين، والله أعلم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الخطاب في قوله: {إن ربك} لمحمد صلى الله عليه وسلم على الوجه الأظهر، أو لموسى على جعل قوله: {إن الذين اتخذوا العجل} مقولاً من الله لموسى.
وفي تعريف المسند إليه بالإضافة توسل إلى تشريف المضاف إليه بأنه مربوب لله تعالى، وفي ذكر وصف الربوبية هنا تمهيد لوصف الرحمة.
وتأكيد الخبر بإن ولام التوكيد وصيغتي المبالغة في {غفور رحيم} لمزيد الاهتمام به ترغيب للعصاة في التوبة، وطرداً للقنوط من نفوسهم، وإن عظمت ذنوبهم، فلا يحسبوا تحديد التوبة بحد إذا تجاوزتْه الذنوب بالكثرة أو العِظَم لم تقبل منه توبة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في هذا النص تأكيد بقبول التوبة بالتأكيد بالجملة الاسمية، وبوصف الربوبية، وبوصف الغفران والرحمة، وب (إن) وباللام في قوله: {لغفور رحيم}. وإن الله تعالى في القرآن الكريم حيث يذكر العقاب يذكر التوبة وقبولها حتى لا ييئس المذنب من غفرانه، فينساق في معاصيه وهو يقنط من غفران الله ورحمته، قال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (53)} (الزمر).
ونعلم من قبل أن التوبة لها مظهريات ثلاثة؛ أولا: لها مظهرية التشريع، ولها مظهرية الفعل من التائب ثانيا، ولها قبولية الله للتوبة من التائب ثالثا. ومشروعية التوبة نفسها فيها مطلق الرحمة، ولو لم يكن ربنا قد شرع التوبة في ذاتها لتعب الخلق جميعا؛ لأن كل من عمل سيئة، ولم يشرع الله له التوبة، سيشتري شره في عمل السيئات. لكن حين يشرع ربنا للمسيء التوبة، ويدعو العبد للكف عن السيئة فهذه رحمة بالمذنب، وبالمجتمع الذي يعيش فيه المذنب. بعد ذلك يتوب العبد، ثم يكون هنا مظهرية أخرى للحق، وهو أن يقبل توبته.التوبة إذن لها تشريع من الله، وذلك رحمة، وفعل من العبد بأن يتوب، وذلك هو الاستجابة، وقبول من الله، وذلك هو قمة العطاء والرحمة منه سبحانه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
.. لماذا جاء الإِيمان في الآية الحاضرة بعد ذكر التوبة والحال أنّه ما لم يكن هناك إيمان لا تتحقق توبة؟
إنّ الجواب على هذا السؤال يتّضح من أن قواعد الإِيمان تتزلزل عند ارتكاب المعصية، ويصيبها نوع من الوهن، إلى درجة أنّنا نقرأ في الأحاديث الإِسلامية:
«لا يشرب الخمر وهو مؤمن، ولا يزني وهو مؤمن» أي أن الإِيمان يتضاءل ضوؤه، ويفقد أثره.
ولكن عندما تتحقق التوبة يعود الإِيمان إلى ضوئه وأثره الأوّل، وكأنّ الإِيمان تجدّد مرّة أُخرى.
ثمّ إنّ الآيات الحاضرة ركزت ـ فقط ـ على الذلة في الحياة الدنيا، ويستفاد من ذلك أن توبة بني إسرائيل من هذه المعصية بعد الندامة من قضية الوثنية وتذوق العقوبة في هذه الدنيا، قد قبلت بحيث أنّها أزالت عقوبتهم في الآخرة، وإن بقيت أعباء الذنوب الأُخرى التي لم يتوبوا منها في أعناقهم.