قوله تعالى : { فأردنا أن يبدلهم } قرأ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو : بالتشديد هاهنا وفي سورة التحريم والقلم ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ، وهما لغتان ، وفرق بعضهم فقال : التبديل : تغيير الشيء ، أو تغيير حاله وعين الشمس قائم ، والإبدال : رفع الشيء ووضع شيء آخر مكانه ، { ربهما خيراً منه زكاة } أي : صلاحاً وتقوى ، { وأقرب رحماً } ، قرأ ابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوب : بضم الحاء ، والباقون بجزمها ، أي : عطفاً من الرحمة . وقيل : هو من الرحم والقرابة ، قال قتادة : أي أوصل للرحم وأبر بوالديه . قال الكلبي : أبدلهما الله جارية فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت له نبيا ، فهدى الله على يديه أمة من الأمم . وعن جعفر بن محمد عن أبيه : أبدلهما الله جارية ولدت سبعين نبياً . وقال ابن جريج : أبدلهما بغلام مسلم . قال مطرف : فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل . ولو بقي لكان فيه هلاكهما ، فليرض امرؤ بقضاء الله تعالى ، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب .
{ فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ } والإِبدال : رفع شئ . وإحلال آخر محله .
أى : { فأردنا } بقتله { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا } بدل هذا الغلام الكافر الطاغى ، ولدا آخر { خيرا منه } أى من هذا الغلام ، زكاة " أى " طهارة وصلاحا { وأقرب رحما } أى : وأقرب فى الرحمة بهما . والعطف عليهما ، والطاعة لهما .
وقوله : فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا : اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه جماعة من قرّاء المكيين والمدنيين والبصريين : «فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا » . وكان بعضهم يعتلّ لصحة ذلك بأنه وجد ذلك مشدّدا في عامّة القرآن ، كقول الله عزّ وجلّ : فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُوا ، وقوله : وَإذَا بَدّلْنا آيَةً مَكانَ إيَةٍ ، فألحق قوله : فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا بِه . وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفة : فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا بتخفيف الدال . وكان بعض من قرأ ذلك كذلك من أهل العربية يقول : أبدل يُبْدِل بالتخفيف وبَدّل يُبدّل بالتشديد : بمعنى واحد .
والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، قد قرأ بكلّ واحدة منهما جماعة من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وقيل : إن الله عزّ وجلّ أبدل أبَوَي الغلام الذي قتله صاحب موسى منه بجارية . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هاشم بن القاسم ، قال : حدثنا المبارك بن سعيد ، قال : حدثنا عمرو بن قيس في قوله : فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْرا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْما قال : بلغني أنها جارية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، أخبرني سليمان بن أميّة أنه سمع يعقوب بن عاصم يقول : أُبْدِلاَ مكان الغلام جارية .
قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن عثمان بن خُثَيم ، أنه سمع سعيد بن جبير يقول : أبدلا مكان الغلام جارية .
وقال آخرون : أبدلهما ربهما بغلام مسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْرا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْما قال : كانت أمه حُبلى يومئذ بغلام مسلم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، أنه ذكر الغلام الذي قتله الخضر ، فقال : قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي كان فيه هلاكهما ، فليرض امرؤ بقضاء الله ، فإن قضاء الله للمؤمن فيماط يكره خير له من قضائه فيما يحبّ .
وقوله : خَيْرا مِنْهُ زَكاةً يقول : خيرا من الغلام الذي قتله صلاحا ودينا ، كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْرا مِنْهُ زَكَاةً قال : الإسلام .
وقوله : وأقْرَبَ رُحْما اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وأقرب رحمة بوالديه وأبرّ بهما من المقتول . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة وأقْرَبَ رُحْما : أبرّ بوالديه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سيعد ، عن قتادة وأقْرَبَ رُحْما أي أقرب خيرا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأقرب أن يرحمه أبواه منهما للمقتول . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج وأقْرَبَ رُحْما أرحم به منهما بالذي قتل الخضر .
وكان بعض أهل العربية يتأوّل ذلك : وأقرب أن يرحماه والرّحْم : مصدر رحمت ، يقال : رَحِمته رَحْمة ورُحما . وكان بعض البصريين يقول : من الرّحِم والقرابة . وقد يقال : رُحْم ورُحُم مثل عُسْر وعُسُر ، وهُلْك وهُلُك ، واستشهد لقوله ذلك ببيت العجاج :
*** ولَمْ تُعَوّجْ رُحْمُ مَنْ تَعَوّجا ***
ولا وجه للرّحيم في هذا الموضع . لأن المقتول كان الذي أبدل الله منه والديه ولدا لأبوي المقتول ، فقرابتهما من والديه ، وقربهما منه في الرّحيم سواء . وإنما معنى ذلك : وأقرب من المقتول أن يرحم والديه فيبرهما كما قال قتادة . وقد يتوجه الكلام إلى أن يكون معناه . وأقرب أن يرحماه ، غير أنه لا قائل من أهل تأويل تأوّله كذلك . فإذ لم يكن فيه قائل ، فالصواب فيه ما قلنا لما بيّنا .
{ فأردنا أن يبدّلهما ربهما خيرا منه } أن يرزقهما ولدا خيرا منه . { زكاة } طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة . { وأقرب رحماً } رحمة وعطفا على والديه . قيل ولدت لهما جارية فتزوجها نبي فولدت له نبيا هدى الله به أمة من الأمم ، وقرأ نافع وأبو عمرو " ويبدلهما " بالتشديد وابن عامر ويعقوب وعاصم " رحماً " بالتخفيف ، وانتصابه على التمييز والعامل اسم التفضيل وكذلك { زكاة } .
وقرأ الجمهور «أن يبَدّلهما » بفتح الباء وشد الدال ، وقرأ ابن محيصن والحسن وعاصم «يبدلهما » بسكون الباء وتخفيف الدال ، و «الزكاة » : شرف الخلق ، والوقار والسكينة المنطوية على خير ونية ، و «الرحم » الرحمة ، والمراد عند فرقة أي يرحمهما ، وقيل أي يرحمانه ، ومنه قول رؤبة بن العجاج : [ الرجز ]
يا منزل الرحم على إدريسا . . . ومنزل اللعن على إبليسا{[7876]}
وقرأ ابن عامر «رحُماً » بضم الحاء ، وقرأ الباقون «رحْماً » بسكونها ، واختلف عن أبي عمرو ، وقرأ ابن عباس «ربهما أزكى منه » و { أقرب رحماً } وروي عن ابن جريج أنهما بدلا غلاماً مسلماً ، وروي عن ابن جريج أنهما بدلا جارية ، وحكى النقاش أنها ولدت هي وذريتها سبعين نبياً ، وذكره المهدوي عن ابن عباس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد ، ولا تعرف كثرة الأنبياء إلا في بني إسرائيل ، وهذه المرأة لم تكن فيهم ، وروي عن ابن جريج أن أم الغلام يوم قتل كانت حاملاً بغلام مسلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأردنا أن يبدلهما ربهما}، يعني: لأبويه لقتل الغلام، والعرب تسمى الغلام غلاما، ما لم تسو لحيته، فأردنا أن يبدلهما ربهما، يعني: يبدل والديه،
{وأقرب رحما}، يعني: وأحسن منه برا بوالده، وكان في شرف وعده...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا":...
وقوله: "خَيْرا مِنْهُ زَكاةً "يقول: خيرا من الغلام الذي قتله صلاحا ودينا... عن ابن جريج، قوله: "فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْرا مِنْهُ زَكَاةً "قال: الإسلام.
وقوله: "وأقْرَبَ رُحْما" اختلف أهل التأويل في تأويله؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: وأقرب رحمة بوالديه وأبرّ بهما من المقتول... عن قتادة "وأقْرَبَ رُحْما" أي: أقرب خيرا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأقرب أن يرحمه أبواه منهما للمقتول...
وإنما معنى ذلك: وأقرب من المقتول أن يرحم والديه فيبرهما...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وفي إبدال الخَلفِ عنه سعادةً لهما.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والزكاة:... النَّقاء من الذُّنوب...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و «الزكاة»: شَرَفُ الخُلُق، والوَقار والسكينة المُنْطوِية على خيرٍ ونِيّةٍ...
أي أردنا أن يرزقهما الله تعالى ولدا خيرا من هذا الغلام زكاة أي دينا وصلاحا، وقيل: إن ذكره الزكاة ههنا على مقابلة قول موسى عليه السلام: {أقتلت نفسا زكية بغير نفس} فقال العالم: أردنا أن يرزق الله هذين الأبوين خيرا بدلا عن ابنهما هذا ولدا يكون خيرا منه كما ذكرته من الزكاة، ويكون المراد من الزكاة الطهارة، فكأن موسى عليه السلام قال: أقتلت نفسا طاهرة لأنها ما وصلت إلى حد البلوغ فكانت زاكية طاهرة من المعاصي، فقال العالم: إن تلك النفس وإن كانت زاكية طاهرة في الحال إلا أنه تعالى علم منها أنها إذا بلغت أقدمت على الطغيان والكفر فأردنا أن يجعل لهما ولدا أعظم زكاة وطهارة منه وهو الذي يعلم الله منه أنه عند البلوغ لا يقدم على شيء من هذه المحظورات...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
ويُستفاد من هذه الآية تهوينُ المصائبِ بفَقْد الأولاد وإن كانوا قِطَعاً من الأكباد، ومَن سَلَّمَ للقضاء أسفرتْ عاقبتُه عن اليد البيضاء...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر ما يلزم على تقدير بقائه من الفساد سبب عنه قوله: {فأردنا} أي بقتله وإراحتهما من شره، ولما كان التعويض عن هذا الولد لله وحده، أسند الفعل إليه في قوله: {أن يبدلهما ربهما} أي المحسن إليهما بإعطائه وأخذه {خيراً منه زكاة} طهارة وبركة، أي من جهة كونه كان ظاهر الزكاء في الحال، وأما في المآل فلو عاش كان فيه خبيثاً ظاهر الخبث، وهذا البدل يمكن أن يكون الصبر، ويمكن أن يكون ولداً آخر، وهو المنقول وأنها كانت بنتاً {وأقرب رحماً} براً بهما وعطفاً عليهما ورحمة لهما فكان الضرر اللاحق لهما بالتأسف عليه أدنى من الضرر اللاحق لهما عند كبره بإفساد دينهما أو دنياهما... ولما ذكر ما يلزم على تقدير بقائه من الفساد سبب عنه قوله: {فأردنا} أي بقتله وإراحتهما من شره، ولما كان التعويض عن هذا الولد لله وحده، أسند الفعل إليه في قوله: {أن يبدلهما ربهما} أي المحسن إليهما بإعطائه وأخذه {خيراً منه زكاة} طهارة وبركة، أي من جهة كونه كان ظاهر الزكاء في الحال، وأما في المآل فلو عاش كان فيه خبيثاً ظاهر الخبث... {وأقرب رحماً} براً بهما وعطفاً عليهما ورحمة لهما فكان الضرر اللاحق لهما بالتأسف عليه أدنى من الضرر اللاحق لهما عند كبره بإفساد دينهما أو دنياهما...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وفي التعرُّض لعنوان الربوبيةِ والإضافةِ إليهما ما لا يَخفى من الدِلالة على إرادة وصولِ الخير إليهما...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولو كان الأمر موكولا إلى العلم البشري الظاهر، لما كان له إلا الظاهر من أمر الغلام، ولما كان له عليه من سلطان، وهو لم يرتكب بعد ما يستحق عليه القتل شرعا. وليس لغير الله ولمن يطلعه من عباده على شيء من غيبه أن يحكم على الطبيعة المغيبة لفرد من الناس. ولا أن يرتب على هذا العلم حكما غير حكم الظاهر الذي تأخذ به الشريعة. ولكنه أمر الله القائم على علمه بالغيب البعيد...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وإذا كان هذا الأمر غير مألوف في طبيعة الممارسة، باعتبار أن قتل إنسانٍ مّا، لتجنيب إنسان آخر الضلال بسببه، ليس أمراً منسجماً مع طبيعة الجزاء على مستوى حركة الصراع، فإن المسألة قد تكون ناشئةً لاستحقاق هذا الإنسان القتل بكفره وطغيانه، ولكن ذلك لم يكن في مستوى الأولوية السريعة، لولا النتائج المستقبلية السلبية المترتبة عليه. وعلى كل حال، فإن ذلك لم يكن تصرفاً ذاتياً من العبد الصالح، بل هو أمرٌ إلهيٌّ أوحى به الله إليه بطريقةٍ خاصةٍ، كما سيأتي الإشارة إليه بعد ذلك في الآية التالية.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(زكاةً) هنا.. لها مفهوم واسع حيث تشمل الإِيمان والعمل الصالح، وتتّسِع للأُمور الدينية والمادية...