{ نحن خلقناهم وشددنا } قوينا وأحكمنا { أسرهم } قال مجاهد وقتادة ومقاتل : { أسرهم } أي : خلقهم ، يقال : رجل حسن الأسر ، أي : الخلق . وقال الحسن : يعني أوصالهم شددنا بعضها إلى بعض بالعروق والعصب . وروي عن مجاهد في تفسير الأسر قال : الفرج ، يعني : موضع في البول والغائط ، إذا خرج الأذى تقبضا . { وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً } أي : إذا شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلاً منهم .
ثم بين - سبحانه - مظاهر فضله عليهم ، ومع ذلك أشركوا معه فى العبادة غيره فقال : { نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } .
أى : نحن وحدنا الذين خلقناهم وأوجدناهم من العدم .
ونحن وحدنا الذين { وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ } أى : قوينا وأحكمنا وأتقنا خلقهم ، بأن منحناهم السمع والأبصار والأفئدة والعقول . . وربطنا بين مفاصلهم وأجزاء أجسادهم ربطا عجيبا معجزا .
يقال : أسَر الله - تعالى - فلانا ، أى : خلقه - وبابه ضرب - وفرس شديد الأسْر ، أى : شديد الخَلْق ، والأسر : القوة ، مشتق من الإِسار - بكسر الهمزة - وهو الحبل الذى تشد به الأحمال ، يقال : أسَر فلان الحمل أسْراً ، إذا أحكم ربطه ، ومنه الأسير لأنه يُرْبَط بالإِسار ، أى : القيد .
والمقصود بالأسر هنا : الإِحكام والإِتقان ، والامتنان عليهم بأن الله - تعالى - خلقهم فى أحسن وأتقن خلق .
وقوله - سبحانه - { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } تأكيد لشمول قدرته - تعالى - أى : ونحن وحدنا الذين خلقناهم ، ونحن وحدنا الذين ربطنا مفاصلهم وأعضاءهم ربطا متقنا بديعا .
ومع ذلك ، فإننا إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم ، وجئنا بأمثالهم وأشباههم فى شدة الخلق ، وبدلناهم تبديلا معجزا ، لا يقدر عليه أحد سوانا .
وقوله : { تَبْدِيلاً } منصوب على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله وهو بدلناهم .
ومن الآيات الشبيهة لهذه الآية فى معناها قوله - تعالى - : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً } وقوله - سبحانه - : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ }
يتلو ذلك التهوين من أمرهم عند الله الذي أعطاهم ما هم فيه من قوة وبأس ، وهو قادر على الذهاب بهم وتبديل غيرهم منهم . ولكنه يتركهم لحكمة يجري بها قدره القديم :
( نحن خلقناهم وشددنا أسرهم ، وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا ) . .
وهذه اللفتة تذكر هؤلاء الذين يعتزون بقوتهم ، بمصدر هذه القوة ، بل مصدر وجودهم ابتداء . ثم تطمئن الذين آمنوا - وهم في حالة الضعف والقلة - إلى أن واهب القوة هو الذي ينتسبون إليه وينهضون بدعوته . كما تقرر في نفوسهم حقيقة قدر الله وما وراءه من حكمة مقصودة ، هي التي تجري وفقها الأحداث حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين .
( وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا ) . . فهم لا يعجزون الله بقوتهم ، وهو خلقهم وأعطاهم إياها . وهو قادر على أن يخلق أمثالهم في مكانهم . . فإذا أمهلهم ولم يبدل أمثالهم فهو فضله ومنته وهو قضاؤه وحكمته . .
ومن هنا تكون الآية استطرادا في تثبيت الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه ؛ وتقريرا لحقيقة موقفهم وموقف الآخرين . . كما أنها لمسة لقلوب هؤلاء المستغرقين في العاجلة ، المغترين بقوة أسرهم ، ليذكروا نعمة الله ، التي يتبطرون بها فلا يشكرونها ؛ وليشعروا بالابتلاء الكامن وراء هذه النعمة . وهو الابتلاء الذي قرره لهم في مطلع السورة .
لما كان الإِخبار عنهم بأنهم { يذرون ورآءهم يوماً ثقيلاً } [ الإنسان : 27 ] يتضمن أنهم ينكرون وقوع ذلك اليوم كما قدمناه وكان الباعث لهم على إنكاره شبهةُ استحالة إعادة الأجسادِ بعد بِلاها وفنائها ، وكان الكلام السابق مسوقاً مساق الذم لهم والإِنكار عليهم جيء هنا بما هو دليل للإِنكار عليهم وإبطال لشبهتهم ببيان إمكان إعادة خلقهم يُعيده الذي خلقهم أول مرّة كما قال تعالى : { فسيقولون من يُعيدنا قُلِ الذي فطركم أول مرة } [ الإسراء : 51 ] وغيرِ ذلك من الآيات الحائمة حول هذا المعنى .
وافتتاح الجملة بالمبتدإ المخبر عنه بالخبر الفِعلي دون أن تفتتح ب { خلقناهم } أو نحن خالقون ، لإِفادة تقوّي الخبر وتحقيقه بالنظر إلى المعنِيِّينَ بهذا الكلام وإن لم يكن خطاباً لهم ولكنهم هم المقصود منه .
وتقويةُ الحكم بناءٌ على تنزيل أولئك المخلوقين منزلة من يشك في أن الله خلقهم حيث لم يجْرُؤوا على موجِب العلم فأنكروا أن الله يعيد الخلق بعد البِلَى ، فكأنهم يسندون الخلق الأول لغيره . وتقوِّي الحكم يترتب عليه أنه إذا شاء بدَّل أمثالهم بإعادة أجسادهم فلذلك لم يُحتج إلى تأكيد جملة : { وإذا شئنا بدّلنا أمثالهم } ، استغناء بتولد معناها عن معنى التي قبلها وإن كان هو أولى بالتقوية على مقتضى الظاهر . وهذا التقوّي هنا مشعر بأن كلاماً يعقبه هو مصب التقوِّي ، ونظيره في التقوِّي والتفريع قوله تعالى : { نحن خلقناكم فلولا تصدقون أفرأيتم ما تُمْنُون } إلى قوله : { وما نحن بمسبوقين على أن نبدِّل أمثالكم } فإن المفرع هو أفرأيتم ما تمنون وما اتصل به . وجملة { فلولا تُصَدِّقون } معترضة وقد مضى في سورة الواقعة ( 57 - 61 ) .
ف{ أمثالهم } : هي الأجساد الثانية إذ هي أمثال لأجسادهم الموجودةِ حين التنزيل .
والشدّ : الإِحكام وإتقان ارتباط أجزاء الجسد بعضها ببعض بواسطة العظام والأعصاب والعروق إذ بذلك يستقلّ الجسم .
والأسر : الربط ، وأطلق هنا على الإِحكام والإِتقان على وجه الاستعارة .
والمعنى : أحْكمنا ربط أجزاء أجسامهم فكانت مشدوداً بعضها إلى بعض .
وقوله : { وإذا شئنا بَدَّلْنا أمثالهم } إخبار بأن الله قادر على أن يُبدلهم بناس آخرين .
فحذف مفعول { شئنا } لدلالة وجواب { إذَا } عليه كما هو الشأن في فعل المشيئة غالباً .
واجتلاب { إذا } في هذا التعليق لأن شأن { إذا } أن تفيد اليقين بوقوع ما قُيد بها بخلاف حرف ( إنْ ) فهو إيماء إلى أن حصول هذه المشيئة مستقرب الوقوع .
فيجوز أن يَكون هذا بمنزلة النتيجة لقوله : { نحن خلقناهم } الخ ، ويُحمل الشرط على التحقق قال تعالى : { وإن الدين لَوَاقع } [ الذاريات : 6 ] .
ويجوز أن يكون قوله : { وإذا شئنا بدلنا أمثالهم } تهديداً لهم على إعراضهم وجحودهم للبعث ، أي لو شئنا لأهلكناهم وخلقنا خلقاً آخر مثلهم كقوله تعالى : { إنْ يشأ يُذْهِبْكُم ويَأتِ بخَلْق جديد } [ إبراهيم : 19 ] .
ويكون { إذا } مراداً به تحقق التلازم بين شرط { إذا } وجوابها ، أي الجملةِ المضاففِ إليها ، والجملةِ المتعلَّق بها .
وفعل التبديل يقتضي مبدَّلاً ومبدَّلاً به وأيُّهما اعتبرتَه في موضع الآخر صح لأن كل مُبَدَّل بشيء هو أيضاً مُبدَّلٌ به ذلك الشيءُ ، ولا سيما إذا لم يكن في المقام غرض ببيان المرغوب في اقتِنَائه والمسموح ببذله من الشيئين المستبدَلين ، فحُذف من الكلام هنا متعلِّق { بدَّلنا } وهو المجرور بالباء لأنه أولى بالحذف ، وأُبقي المفعول .
وقد تقدم نظيره في سورة الواقعة ( 61 ) في قوله : { على أنْ نُبَدل أمثالكم } ، ومنه قوله تعالى : { إِنا لقادرون على أن نبدّلَ خيراً منهم } في سورة المعارج ( 40 ، 41 ) فالتقدير : بَدَّلْنا منهم .
والأمثال : جمع مِثْل وهو المماثل في ذاتتٍ أو صفة ، فيجوز أن يراد أمثالهم في أشكال أجسادهم وهو التبديل الذي سيكون في المعاد .
ويجوز أن يراد أمثالهم في أنهم أُمم ، وعلى الوجه الأول فهو يدل على أن البعث يحصل بخلق أجسام على مِثال الأجساد التي كانت في الحياة الدنيا للأرواح التي كانت فيها .
وانتصب { تبديلاً } على المفعول المطلق المؤكِّد لعامله للدلالة على أنه تبديل حقيقي ، وللتوصل بالتنوين إلى تعظيمه وعجوبته .