مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{نَّحۡنُ خَلَقۡنَٰهُمۡ وَشَدَدۡنَآ أَسۡرَهُمۡۖ وَإِذَا شِئۡنَا بَدَّلۡنَآ أَمۡثَٰلَهُمۡ تَبۡدِيلًا} (28)

ثم إنه تعالى لما ذكر أن الداعي لهم إلى هذا الكفر حب العاجل ، قال : { نحن خلقناهم وشددنا أسرهم ، وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا } .

والمراد أن حبهم للعاجلة يوجب عليهم طاعة الله من حيث الرغبة ومن حيث الرهبة ، أما من حيث الرغبة فلأنه هو الذي خلقهم وأعطاهم الأعضاء السليمة التي بها يمكن الانتفاع باللذات العاجلة ، وخلق جميع ما يمكن الانتفاع به ، فإذا أحبوا اللذات العاجلة ، وتلك اللذات لا تحصل إلا عند حصول المنتفع وحصول المنتفع به ، وهذان لا يحصلان إلا بتكوين الله وإيجاده ، فهذا مما يوجب عليهم الانقياد لله ولتكاليفه وترك التمرد والإعراض ، وأما من حيث الرهبة فلأنه قدر على أن يميتهم ، وعلى أن يسلب النعمة عنهم ، وعلى أن يلقيهم في كل محنة وبلية ، فلأجل من فوت هذه اللذات العاجلة يجب عليهم أن ينقادوا لله ، وأن يتركوا هذا التمرد ، وحاصل الكلام كأنه قيل لهم : هب أن حبكم لهذه اللذات العاجلة طريقة مستحسنة ، إلا أن ذلك يوجب عليكم الإيمان بالله والانقياد له ، فلو أنكم توسلتم به إلى الكفر بالله ، والإعراض عن حكمه ، لكنتم قد تمردتم ، وهذا ترتيب حسن في السؤال والجواب ، وطريقة لطيفة : وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال أهل اللغة : الأسر الربط والتوثيق ، ومنه أسر الرجل إذا وثق بالقد وفرس مأسور الخلق وفرس مأسور بالعقب ، والمعنى شددنا توصيل أعضائهم بعضا ببعض وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب .

المسألة الثانية : { وإذا شئنا بدلنا أمثالهم } أي إذا شئنا أهلكناهم وآتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم ، وهو كقوله : { على أن نبدل أمثالكم } والغرض منه بيان الاستغناء التام عنهم كأنه قيل : لا حاجة بنا إلى أحد من المخلوقين البتة ، وبتقدير أن تثبت الحاجة فلا حاجة إلى هؤلاء الأقوام ، فإنا قادرون على إفنائهم ، وعلى إيجاد أمثالهم ، ونظيره قوله تعالى : { إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا } وقال : { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز } ثم قيل : { بدلنا أمثالهم } أي في الخلقة ، وإن كانوا أضدادهم في العمل ، وقيل : { أمثالهم في الكفر } .

المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف في قوله : { وإذا شئنا } إن حقه أن يجيء بأن لا بإذا كقوله : { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم } { إن يشأ يذهبكم } واعلم أن هذا الكلام كأنه طعن في لفظ القرآن ، وهو ضعيف لأن كل واحد من إن وإذا حرف الشرط ، إلا أن حرف إن لا يستعمل فيما يكون معلوم الوقوع ، فلا يقال : إن طلعت الشمس أكرمتك ، أما حرف إذا فإنه يستعمل فيما كان معلوم الوقوع ، تقول : آتيك إذا طلعت الشمس ، فهاهنا لما كان الله تعالى عالما بأنه سيجيء وقت يبدل الله فيه أولئك الكفرة بأمثالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة ، لا جرم حسن استعمال حرف إذا .