اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{نَّحۡنُ خَلَقۡنَٰهُمۡ وَشَدَدۡنَآ أَسۡرَهُمۡۖ وَإِذَا شِئۡنَا بَدَّلۡنَآ أَمۡثَٰلَهُمۡ تَبۡدِيلًا} (28)

قوله تعالى : { نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ } أي من طين ، { وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ } أي : خلقهم . قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم ، والأسر : الخلق .

قال أبو عبيد : يقال : فرس شديد الأسر ، أي : الخلق ، ويقال : أسره الله ، إذا شدد خلقه ؛ قال لبيدٌ [ الرمل ]

5051- سَاهِمُ الوجْهِ شَدِيدٌ أسْرهُ *** مُشْرِفُ الحَارِكِ مَحْبُوكُ الكَتِدْ{[58969]}

وقال الأخطل : [ الكامل ]

5052- مِنْ كُلِّ مُجْتَنِبٍ شَديدٍ أسْرهُ *** سَلِسُ القِيَادِ تخَالهُ مُخْتَالاً{[58970]}

وقال أبو هريرة والحسن والربيع رضي الله عنهم : شَددْنَا مفَاصِلهُمْ{[58971]} .

قال أهل اللغة : الأسر : الرَّبْط ، ومنه : أسِرَ الرجُل ، إذا أوثق بالقيد ، وفرس مأسورة الخلق وفرس مأسورة بالعقب ، والإسار : هو القيد الذي يشد به الأقتاب ، تقول : أسرت القتب أسراً ، أي : شددته وربطته .

فصل في معنى الأسر

قال ابن زيد : الأسر القوة ، والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية ، أي : سويت خلقك وأحكمته بالقوى ثم أنت تكفر بي{[58972]} .

قال ابن الخطيب{[58973]} : وهذا الكلام يوجب عليهم طاعة الله تعالى من حيث الترغيب والترهيب ؛ أما الترغيب فلأنه هو الذي خلقهم وأعطاهم الأعضاء السليمة التي بها يمكن الانتفاع باللذات العاجلة ، وخلق لهم جميع ما يمكن الانتفاع به ، فإذا أحبوا اللذات العاجلة ، وتلك اللذات لا تحصل إلا بالمنتفع والمنتفع به ، وهما لا يحصلان إلا بتكوين الله وإيجاده ، وهذا مما يوجب عليهم الانقياد لله - تعالى - وترك التمرُّد .

وأما الترهيب فإنه قادرٌ على أن يميتهم وأن يسلُب النعم عنهم ، وأن يلقي بهم في كل محنة وبلية ، فلأجل الخوف من فوت هذه اللذات العاجلة يجب عليهم الانقياد لله - تعالى - وترك التمرّد ، فكأنه قيل : هبْ أن حبكم لهذه اللذات العاجلة طريقة حسنة إلا أن ذلك يوجب عليكم الإيمان بالله - تعالى - والانقياد له ، فلم توسلتم به إلى الكفر بالله - تعالى - والإعراض عن حكمه .

قوله تعالى : { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } .

قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بأطْوَعَ لله منهم{[58974]} .

وقال ابن الخطيب{[58975]} : معناه : إذا شئنا أهلكناهم ، وأتينا بأشباههم ، فجعلناهم بدلاً منهم كقوله تعالى : { على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ } [ الواقعة : 61 ] ، والغرض منه : بيان الاستغناء التام عنهم ، كأنه قيل : لا حاجة بنا إلى أحد من المخلوقين ألبتة ، وبتقدير إن ثبتت الحاجة ، فلا حاجة بنا إلى هؤلاء الأقوام ؛ فإنا قادرون على إبدالهم وإيجاد أمثالهم ، ونظيره قوله تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } [ إبراهيم : 19 ] ، { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } [ النساء : 133 ] . وروى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهم - معناه : لغيرنا محاسنهم إلى أقبح الصور{[58976]} .

وقيل : أمثالهم في الكفر .

فصل في نظم الآية

قال الزمخشري في قوله تعالى : { وَإِذَا شِئْنَا } : وحقه أن يجيء ب «إن » لا ب «إذا » ، كقوله تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ محمد : 38 ] ، { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } يعني : أنَّ «إذا » للمحقَّق ، و«إن » للمحتمل ، وهو تعالى لم يشأ ذلك ، وجوابه أن «إذا » قد تقع موقع «إن » كالعكس .

قال ابن الخطيب{[58977]} : فكأنه طعن في لفظ القرآن وهو ضعيف ، لأن كل واحد من «إن » و«إذا » حرف شرط ، إلا أن حرف «إن » لا يستعمل فيما هو معلوم الوقوع ، فلا يقال : إن طلعت الشمس أكرمتك .

أما حرف «إذا » فإنه يستعمل فيما يكون معلوم الوقوع تقول ابتداء : إذا طلعت الشمس - فهاهنا - لما كان الله تعالى عالماً أنه سيجيء وقت يبدل الله تعالى فيه أولئك الكفرة بأمثالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة لا جرم حسن استعمال حرف «إذا » .


[58969]:يروى الشطر الثاني برواية: مشرف الحال محبوك الكفل *** ... بنظر ديوان لبيد (144)، واللسان (حبك) (حرك)، والقرطبي 19/98.
[58970]:ينظر ديوان الأخطل ص 388، والطبري 29/139، ومجمع البيان10/625، والقرطبي 19/98.
[58971]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/375) عن أبي هريرة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/490) عن الربيع وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وذكره أيضا عن الحسن وعزاه إلى عبد حميد.
[58972]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/375).
[58973]:ينظر الفخر الرازي (30/228).
[58974]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/99).
[58975]:ينظر: الفخر الرازي 30/230.
[58976]:ينظر تفسير القرطبي (19/99).
[58977]:ينظر الفخر الرازي 30/230.