قوله تعالى :{ أولئك يجزون } يعني : ينالون ، { الغرفة } يعني : الدرجة الرفيعة في الجنة ، والغرفة : كل بناء مرتفع عال . وقال عطاء : يريد غرف الدر والزبرجد في الجنة ، { بما صبروا } على أمر الله تعالى وطاعته . وقيل : على أذى المشركين . وقيل : عن الشهوات { ويلقون فيها } قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : بفتح الياء وتخفيف القاف ، كما قال : { فسوف يلقون غياً } وقرأ الآخرون : بضم الياء وتشديد القاف كما قال : { ولقاهم نضرةً وسروراً } وقوله : { تحية } أي ملكاً ، وقيل : بقاء دائماً ، { وسلاماً } أي : يسلم بعضهم على بعض . وقال الكلبي : يحيي بعضهم بعضاً بالسلام ، ويرسل الرب إليهم بالسلام . وقيل : سلاماً أي : سلامة من الآفات .
لقد بين - سبحانه - ما أعده فهم فقال : { أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } .
والغرفة فى الأصل : كل بناء مرتفع ، والجمع غرف وغرفات كما فى قوله - تعالى - : { لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ } وقوله - سبحانه - : { وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ } والمراد بها هنا : أعلى منازل الجنة أو الجنة نفسها أو جنسها الصادق بغرف كثيرة .
أى : أولئك المتقون المتصفون . بالصفات السابقة ، يجازيهم الله - تعالى - بأعلى المنازل والدرجات فى الجنة ، بسبب صبرهم على طاعته ، وبعدهم عن معصيته ويلقون فى تلك المنازل الرفيعة { تَحِيَّةً وَسَلاَماً } عن ربهم - عز وجل - ومن ملائكته الكرام ، ومن بعضهم لبعض .
فأما جزاء عباد الرحمن فيختم به هذا البيان :
( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ، ويلقون فيها تحية وسلاما ، خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما ) . .
والغرفة ربما كان المقصود بها الجنة ، أو المكان الخاص في الجنة ، كما أن الغرفة أكرم من البهو فيما اعتاد الناس في البيوت في هذه الأرض ، عندما يستقبلون الأضياف . وأولئك الكرام الذين سبقت صفاتهم وسماتهم ، يستقبلون في الغرفة بالتحية والسلام ، جزاء ما صبروا على تلك الصفات والسمات . وهو تعبير ذو دلالة . فهذه العزائم تحتاج إلى الصبر على شهوات النفس ، ومغريات الحياة ، ودوافع السقوط . والاستقامة جهد لا يقدر عليه إلا بالصبر . الصبر الذي يستحق أن يذكره الله في هذا الفرقان .
{ أولئك يجزون الغرفة } أعلى مواضع الجنة وهي اسم جنس أريد به الجمع كقوله تعالى : { وهم في الغرفات آمنون } وللقراءة بها ، وقيل هي من أسماء الجنة . { بما صبروا } وبصبرهم على المشاق من مضض الطاعات ورفض الشهوات وتحمل المجاهدات . { ويلقون فيها تحية وسلاما } دعاء بالتعمير والسلامة أي يحييهم الملائكة ويسلمون عليهم ، أو يحيي بعضهم بعضا ويسلم عليه ، أو تبقية دائمة وسلامة من كل آفة ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر يلقون من لقي .
قرأ أبي كعب «يجازون » بألف ، و { الغرفة } من منازل الجنة وهي الغرفة فوق الغرف وهو اسم الجنة كما قال : [ الهزج ]
ولولا الحبة السمراء . . . لم نحلل بواديكم{[8891]}
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «ويُلَقّون » بضم الياء وفتح اللام وشد القاف وهي قراءة أبي جعفر وشيبة والحسن ، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم وطلحة ومحمد اليماني ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم «ويلْقون » بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف ، واختلف عن عاصم{[8892]} .
التصدير باسم الإشارة للتنبيه على أن ما يَرد بعده كانوا أحرياء به لأجل ما ذُكر قبل اسم الإشارة . وتلك مجموع إحدى عشرة خصلة وهي : التواضع ، والحلم ، والتهجد ، والخوف ، وترك الإسراف ، وترك الإقتار ، والتنزه عن الشرك ، وترك الزنا ، وترك قتل النفس ، والتوبةُ ، وترك الكذب ، والعفوُ عن المسيء ، وقبولُ دعوة الحق ، وإظهار الاحتياج إلى الله بالدعاء . واسم الإشارة هو الخبر عن قوله { وعباد الرحمن } [ الفرقان : 63 ] كما تقدم على أرجح الوجهين .
و { الغرفة } : البيت المعتلي يصعد إليه بدرج وهو أعزّ منزلاً من البيت الأرضي . والتعريف في الغرفة تعريفُ الجنس فيستوي فيه المفرد والجمع مثل قوله تعالى : { وأنزلنا معهم الكتاب } [ الحديد : 25 ] فالمعنى : يُجزون الغُرَف ، أي من الجنة ، قال تعالى : { وهم في الغُرفات آمنون } [ سبأ : 37 ] .
والباء للسببية . و ( ما ) مصدرية في قوله : { بما صبروا } ، أي بصبرهم وهو صبرهم على ما لقوا من المشركين من أذى ، وصبرُهم على كبح شهواتهم لأجل إقامة شرائع الإسلام ، وصبرهم على مشقة الطاعات .
وقرأ الجمهور : { وَيُلقون } بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف المفتوحة مضارع لقّاه إذا جعله لاقياً . وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف { ويَلْقَون } بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف المفتوحة مضارع لَقِيَ . وَاللُّقِيُّ واللِّقَاء : استقبال شيء ومصادفته ، وتقدم في قوله تعالى : { واتقوا الله واعلموا أنكم مُلاقوه } في سورة البقرة ( 223 ) ، وفي قوله : { يأيها الذين آمنوا إذا لَقِيتُم الذين كفروا زحْفاً } في سورة الأنفال ( 15 ) ، وتقدم قريباً قوله تعالى : { ومن يفعل ذلك يلقَ أثاماً } [ الفرقان : 68 ] .
وقد استعير اللُّقِيّ لسماع التحية والسلام ، أي أنهم يسمعون ذلك في الجنة من غير أن يدخلوا على بأس أو يدخل عليهم بأس بل هم مصادفون تحية إكرام وثناء مثل تحيات العظماء والملوك التي يرتلها الشعراء والمنشدون .
ويجوز أن يكون إطلاق اللُّقِيّ لسماع ألفاظ التحية والسلام لأجل الإيماء إلى أنهم يسمعون التحية من الملائكة يَلْقَوْنَهم بها ، فهو مجاز بالحذف قال تعالى : { وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون } في سورة الأنبياء ( 103 ) .