وبعد هذا الحديث عن المؤمنين وعن صفاتهم الكريمة وعما اعده سبحانه لهم من ثواب ، جاء الحديث عن الظالمين وما أعد لهم من عقاب ، وأمرهم - سبحانه - بالاستجابة لدعوة الحق من قبل أن يأتى يوم الحساب ، الذى لا ينفعهم فيه شفيع أو نصير ، فقال - تعالى - : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا . . . فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ } . وقوله تعالى : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ . . } أى : ومن يخذله الله تعالى ويبعده عن طريق الهداية بسبب زيغه وإيثاره الغى على الرشد ، فليس لهذا الضال من ناصر ينصره بعد الله - تعالى - .
فالمراد بالضلال هنا : ما هو ضد الهداية والتوفيق للخير . والضمير فى قوله " من بعده " يعود إلى الله - عز وجل - وقيل : يعود للخذلان المهفوم من قوله " يضلل " .
ثم بين - سبحانه - حال الظالمين عندما يعرضون على النار فقال : { وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } .
أى : وترى - أيها العاقل - الظالمين حين رأوا العذاب المعد لهم يوم القيامة ، تراهم فى نهاية الحسرة والذلة ، ويقولون فى ندامة وانكسار : هل إلى { مَرَدٍّ } أى : مرجع إلى الدنيا من سبيل أو طريق ، فنعمل غير الذى كنا نعمل .
وبعد تقرير صفة المؤمنين الذين يدخر الله لهم عنده ما هو خير وأبقى ، يعرض في الصفحة المقابلة صورة الظالمين الضالين ، وما ينتظرهم من ذل وخسران :
( ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده ؛ وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون : هل إلى مرد من سبيل ? وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ، ينظرون من طرف خفي ، وقال الذين آمنوا : إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ؛ ألا إن الظالمين في عذاب مقيم ، وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ، ومن يضلل الله فما له من سبيل ) . .
إن قضاء الله لا يرد ، ومشيئته لا معقب عليها ( ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده ) . . فإذا علم الله من حقيقة العبد أنه مستحق للضلال ، فحقت عليه كلمة الله أن يكون من أهل الضلال ، لم يكن له بعد ذلك من ولي يهديه من ضلاله ، أو ينصره من جزاء الضلال الذي قدره الله . . والذي يعرض منه مشهداً في بقية الآية :
( وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون : هل إلى مرد من سبيل ، وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ، ينظرون من طرف خفي ) . .
والظالمون كانوا طغاة بغاة ، فناسب أن يكون الذل هو مظهرهم البارز في يوم الجزاء . إنهم يرون العذاب ، فتتهاوى كبرياؤهم . ويتساءلون في انكسار : ( هل إلى مرد من سبيل ? )في هذه الصيغة الموحية باليأس مع اللهفة ، والانهيار مع التطلع إلى أي بارقة للخلاص !
وقوله تعالى : { ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده } تحقير لأمر الكفرة فلا يبال بهم أحد من المؤمنين ، فقد أضارهم كفرهم وإضلال الله إياهم إلى ما لا فلاح لهم معه . ثم وصف تعالى لنبيه عليه السلام حالهم في القيامة عند رؤيتهم العذاب ، فاجتزأ من صفتهم وصفة حالتهم بأنهم يقولون { هل إلى مرد من سبيل } ، وهذه المقالة تدل على سوء ما أطلعوا عليه ، والمراد موضوع الرد إلى الدنيا ، والمعنى الذي قصدوه أن يكون رد فيكون منهم استدراك للعمل والإيمان . والرؤية في هذه الآية : رؤية عين .
بعد أن حكى أصنافاً من كفر المشركين وعنادهم وتكذيبهم ، ثم ذكَّرهم بالآيات الدالة على انفراد الله تعالى بالإلهية وما في مطاويها من النعم وحذّرهم من الغرور بمتاع الدنيا الزائل أعقبه بقوله : { ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده } وهو معطوف على قوله : { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس } [ الشورى : 42 ] .
والمعنى : أن فيما سمعتهم هدايةً لمن أراد الله له أن يهتدي ، وأما من قدَّر الله عليه بالضلال فما له من وليّ غير الله يهديه أو ينقذه ، فالمراد نفي الولي الذي يُصلحه ويُرشده ، كقوله : { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجدَ له وليَّاً مُرشداً } [ الكهف : 17 ] ، فالمراد هنا ابتداءً معنى خاص من الوَلاية .
وإضلال الله المرءَ : خَلْقُه غير سريع للاهتداء أوْ غير قابل له وحرمانه من تداركه إياه بالتوفيق كلما توغل في الضلالة ، فضَلالُه من خلق الله وتقدير الله له ، والله دعا الناس إلى الهداية بواسطة رُسله وشرائعه قال تعالى : { والله يدعو إلى دار السلام ويَهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ يونس : 25 ] أي يدعو كل عاقل ويَهدي بعض مَن دعاهم .
و{ مَن } شرطية ، والفاء في { فما له من ولي } رابطة للجواب . ونفي الولي كناية عن نفي أسباب النجاة عن الضلالة وعواقب العقوبة عليها لأن الولي من خصائصه نفع مولاه بالإرشاد والانتشال ، فنفي الولي يدلّ بالالتزام على احتياج إلى نفعه مولاه وذلك يستلزم أن مولاه في عناء وعذاب كما دل عليه قوله عقبه { وترى الظالمين لما رأوا العذاب } الآية . فهذه كناية تلويحية ، وقد جاء صريح هذا المعنى في قوله : { ومن يضلل الله فما له من هاد } في سورة الزمر ( 23 ) وقوله : { ومن يضلل الله فما له من سبيل } الآتي في هذه السورة ( 46 ) .
وضمير { بعده } راجع إلى اسم الجلالة ، أي من بعد الله كقوله تعالى : { فمن يهديه من بعد الله أفلا تذّكرون } في سورة الجاثية ( 23 ) .
ومعنى { بعد } هنا بمعنى ( دُون ) أو ( غير ) ، استعير لفظ { بعد } لمعنى ( دون ) لأن { بعد } موضوع لمن يخلف غائباً في مكانه أو في عمله ، فشبه ترك الله الضالَّ في ضلاله بغيبة الولي الذي يترك مولاه دون وصي ولا وكيل لمولاه وتقدم في قوله تعالى : { فبأي حديث بعده يؤمنون } في سورة الأعراف ( 185 ) وقوله : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } في سورة يونس ( 32 ) .
و { من } زائدة للتوكيد . ومن مواضع زيادتها أن تزاد قبل الظروف غيرِ المتصرفة قال الحريري « وما منصوب على الظرف لا يخفضه سوى حرف » .
{ وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سبيل } .
عطف على جملة { ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده } ، وهذا تفصيل وبيان لما أجمل في الآيتين المعطوف عليهما وهما قوله : { ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص } [ الشورى : 35 ] ، وقوله : { ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده } .
والمعنى : أنهم لا يجدون محيصاً ولا ولياً ، فلا يجدون إلا الندامة على ما فات فيقولُوا { هل إلى مرد من سبيل } .
والاستفهام بحرف { هل } إنكاري في معنى النفي ، فلذلك أدخلت { مِن } الزائدة على { سبيل } لأنه نكرة في سياق النفي .
والمَرَد : مصدر ميمي للردّ ، والمراد بالرد : الرجوع ، يقال : رده ، إذا أرجعه . ويجوز أن يكون { مَرَد } بمعنى الدفع ، أي هل إلى ردّ العذاب عنا الذي يبدو لنا سبيلٌ حتى لا نقع فيه ، فهو في معنى { إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع } في سورة الطور ( 8 ) .
والخطاب في { ترى } لغير معيّن ، أي تناهت حالهم في الظهور فلا يختص به مخاطب ، أو الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم تسليةً له على ما لاقاه منهم من التكذيب . والمقصودُ : الإخبار بحالهم أولاً ، والتعجيب منه ثانياً ، فلم يقل : والظالمون لما رأوا العذاب يقولون ، وإنما قيل : { وترى الظالمين } للاعتبار بحالهم .
ومجيء فعل { رأوا العذاب } بصيغة الماضي للتنبيه على تحقيق وقوعه ، فالمضي مستعار للاستقبال تشبيهاً للمستقبل بالماضي في التحقق ، والقرينة فعل { ترى } الذي هو مستقبل إذ ليست الرؤية المذكورة بحاصلة في الحال فكأنه قيل : لما يَرون العذاب .
وجملة { يقولون } حال من { الظالمين } أي تراهم قائلين ، فالرؤية مقيدة بكونها في حال قولهم ذلك ، أي في حال سماع الرائي قولهم .