وقد حكى القرآن ما رد به الله على آدم وحواء وإبليس ، فقال : { قَالَ اهبطوا } أى من الجنة إلى ما عداها . وقيل الخطاب لآدم وحواء وذريتهما . وقيل الخطاب لهما فقط لقوله - سبحانه - في آية أخرى { قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً } والقصة واحدة ، وضمير الجمع لكونهما أصل البشر .
وجملة { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } في موضع الحال من فاعل اهبطوا ، والمعنى اهبطوا إلى الأرض حالة كون العداوة لا تنفك بين آدم وذريته ، وبين إبليس وشيعته { وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ } أى موضع استقرار { وَمَتَاعٌ } أى : تمتع ومعيشة { إلى حِينٍ } أى : إلى حين انقضاء آجالكم .
وهنا تكون التجربة الأولى قد تمت . وتكشف خصائص الإنسان الكبرى . وعرفها هو وذاقها . واستعد - بهذا التنبيه لخصائصه الكامنة - لمزاولة اختصاصه في الخلافة ؛ وللدخول في المعركة التي لا تهدأ أبداً مع عدوه . .
( قال : اهبطوا بعضكم لبعض عدو ، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين . قال : فيها تحيون ، وفيها تموتون ، ومنها تخرجون ) . .
وهبطوا جميعا . . هبطوا إلى هذه الأرض . . ولكن أين كانوا ؟ أين هي الجنة ؟ . . هذا من الغيب الذي ليس عندنا من نبأ عنه إلا ما أخبرنا به من عنده مفاتح الغيب وحده . . وكل محاولة لمعرفة هذا الغيب بعد انقطاع الوحي هي محاولة فاشلة . وكل تكذيب كذلك يعتمد على مألوفات البشر اليوم و( علمهم ) الظني هو تبجح . فهذا " العلم " يتجاوز مجاله حين يحاول الخوض في هذا الغيب بغير أداة عنده ولا وسيلة . ويتبجح حين ينفي الغيب كله ، والغيب محيط به في كل جانب ، والمجهول في " المادة " التي هي مجاله أكثر كثيراً من المعلومات !
لقد هبطوا جميعاً إلى الأرض . . آدم وزوجه ، وإبليس وقبيله . هبطوا ليصارع بعضهم بعضاً ، وليعادي بعضهم بعضاً ؛ ولتدور المعركة بين طبيعتين وخليقتين : إحداهما ممحضة للشر ، والأخرى مزدوجة الاستعداد للخير والشر ؛ وليتم الابتلاء ويجري قدر الله بما شاء .
وكتب على آدم وذريته أن يستقروا في الأرض ؛ ويمكنوا فيها ، ويستمتعوا بما فيها إلى حين .
قيل : المراد بالخطاب في { اهْبِطُوا } آدم ، وحواء ، وإبليس ، والحية . ومنهم من لم يذكر الحية ، والله أعلم .
والعمدة في العداوة آدم وإبليس ؛ ولهذا قال تعالى في سورة " طه " قال : { اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا } [ الآية : 123 ] وحواء تبع لآدم . والحية - إن كان ذكرها صحيحا - فهي تبع لإبليس .
وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم ، ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات ، والله أعلم بصحتها . ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم ، أو دنياهم ، لذكرها الله تعالى في كتابه أو رسوله{[11628]} صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي : قرار وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة ، قد جرى بها القلم ، وأحصاها القدر ، وسطرت في الكتاب الأول . وقال ابن عباس : { مُسْتَقَرٌّ } القبور . وعنه : وجه الأرض وتحتها . رواهما ابن أبي حاتم .
طوَى القرآن هنا ذكر التّوبة على آدم : لأنّ المقصود من القصّة في هذه السّورة التّذكير بعداوة الشّيطان وتحذير النّاس من اتّباع وسوسته ، وإظهار ما يُعقبه اتّباعه من الخسران والفساد ، ومقام هذه الموعظة يقتضي الإعراض عن ذكر التّوبة للاقتصار على أسباب الخسارة ، وقد ذكرت التّوبة في آية البقرة المقصودِ منها بيان فضل آدم وكرامته عند ربّه ، ولكلّ مقامً مَقال . والخطابُ لآدم وزوجه وإبليسَ . والأمر تكويني ، وبه صار آدم وزوجه وإبليسُ من سكّان الأرض .
وجملة : { بعضكم لبعض عدو } في موضع الحال من ضمير : { اهبطوا } المرفوععِ بالأمر التّكويني فهذه الحال أيضاً تفيد معنى تكوينياً وهو مقارنة العداوة بينهم لوجودهما في الأرض ، وهذا التّكوين تأكّدت به العداوة الجبلية السّابقة فرسخت وزادت ، والمراد بالبعض البعض المخالف في الجنس ، فأحد البعضين هو آدم وزوجه ، والبعض الآخر هو إبليس ، وإذ قد كانت هذه العداوة تكوينيّة بين أصلي الجنسين ، كانت موروثة في نسليهما ، والمقصود تذكير بني آدم بعداوة الشّيطان لهم ولأصلهم ليتّهموا كلّ وسوسة تأتيهم من قِبله ، وقد نشأت هذه العداوة عن حَسد إبليس ، ثمّ سَرت وتشجرت فصارت عداوة تامة في سائر نواحي الوجود ، فهي منبثّة في التّفكير والجسد ، ومقتضية تمام التّنافر بين النّوعين .
وإذ قد كانت نفوس الشّياطين داعية إلى الشرّ بالجبلة تعين أن عقل الإنسان منصرف بجبلته إلى الخير ، ولكنّه معرّض لوسوسة الشّياطين فيقع في شذوذ عن أصل فطرته ، وفي هذا ما يكون مفتاحاً لمعنى كون النّاس يولدون على الفطرة ، وكون الإسلام دين الفطرة ، وكون الأصل في النّاس الخير . أمَّا كون الأصل في النّاس العدالة أو الجرح فذلك منظور فيه إلى خشية الوقوع في الشّذوذ ، من حيث لا يدري الحاكم ولا الراوي ، لأنّ أحوال الوقوع في ذلك الشّذوذ مبهمة فوجب التّبصّر في جميع الأحوال .
وعطفت جملة : { ولكم في الأرض مستقر } على جملة : { بعضكم لبعض عدو } .
والمستقرّ مصدر ميمي والاستقرار هو المكث وقد تقدّم القول فيه عند قوله تعالى : { لكل نبإ مستقر } [ الأنعام : 67 ] وقوله { فمستقر ومستودع } في سورة الأنعام ( 98 ) .
والمراد به الوجود أي وجود نوع الإنسان وبخصائصه وليس المراد به الدفن كما فسر به بعض المفسرين لأنّ قوله ومتاع يُصد عن ذلك ولأنّ الشّياطين والجنّ لا يُدفنون في الأرض .
والمتاع والتّمتّع : نيل الملذّات والمرغوبات غير الدّائمة ، ويطلق المتاع على ما يُتمتّع به وينتفع به من الأشياء ، وتقدّم في قوله تعالى : { لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم } في سورة النّساء ( 102 ) .
والحِين المدّة من الزّمن ، طويلة أو قصيرة ، وقد نكر هنا ولم يحدّد لاختلاف مقداره باختلاف الأجناس والأفراد ، والمراد به زمن الحياة التي تخول صاحبها إدراك اللّذّات ، وفيه يحصل بقاء الذّات غير متفرّقة ولا متلاشية ولا معدومة ، وهذا الزّمن المقارن لحالة الحياة والإدراك هو المسمّى بالأجل ، أي المدّة التي يبلغ إليها الحيّ بحياته في علم الله تعالى وتكوينِه ، فإذا انتهى الأجل وانعدمت الحياة انقطع المستقَر والمتاع ، وهذا إعلام من الله بما قدّره للنّوعين ، وليس فيه امتنان ولا تنكيل بهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.