33- هؤلاء هم المتقون الذين استعدوا لآخرتهم ، وذلك جزاؤهم . أما المشركون ، فإنهم بعنادهم وبقائهم على شركهم ، لا ينتظرون إلا الملائكة تقبض أرواحهم ، وهم ظالمون لأنفسهم بالشرك وعمل الشر ، ويأتيهم عذاب ربك بإهلاكهم جميعاً . ومثل ما فعل هؤلاء الكفار المعاندون ، فعل الذين سبقوهم في ذلك مع أنبيائهم فعاقبهم الله على فعلهم ، ولم يكن ظالماً لهم حين عاقبهم ، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم حين عرضوها لعذاب الله بكفرهم .
والاستفهام فى قوله - سبحانه - { هل ينظرون . . } إنكارى فى معنى النفى .
{ ينظرون } هنا بمعنى ينتظرون ، من الإِنظار بمعنى الإِمهال ، والضمير المرفوع يعود إلى أولئك المتكبرين الذين وصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين ، والذين تتوفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم ، كما جاء فى الآيات السابقة .
أى : ما ينتظر أولئك المتكبرون الذين لا يؤمنون بالآخرة ، إلا أن تأتيهم الملائكة لنزع أرواحهم من أجسادهم ، أو يأتى أمر ربك - أيها الرسول الكريم - بإهلاكهم ، أو بإنزال العذاب بهم من حيث لا يشعرون .
وليس المراد من الجملة الكريمة ، أنهم ينتظرون ذلك على سبيل الحقيقة ، لأن إصرارهم على الكفر جعلهم يستهينون بهذا التهديد وإنما المراد أنهم حين أصروا على الكفر مع ظهور البراهين على بطلانه ، صار حالهم كحال المترقب لنزول أحد الأمرين : قبض الملائكة لأرواحهم ، أو نزول العذاب بهم .
فالجملة الكريمة تهديد لهم فى تماديهم فى الكفر ، وتحريض لهم على الإِيمان قبل فوات الأوان .
قال الجمل : " و " أو " فى قوله { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } مانعة خلو ، فإن كلا من الموت والعذاب يأتيهم وإن اختلف الوقت ، وإنما عبر بأو دون الواو ، للاشارة إلى كفاية كل واحد من الأمرين فى تعذيبهم . . . " .
وقوله - سبحانه - : { كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } . تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم من أذى .
أى : مثل هذا الفعل الشنيع الذى صدر عن الكافرين من قومك - يا محمد - فعل الذين من قبلهم من أقوام الرسل السابقين ، كقوم نوح وقوم هود ، وقوم صالح ، فإنهم قد آذوا رسلهم . كما آذاك قومك .
وقد أنزلنا بهم ما يستحقون من عقاب دنيوى ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .
وقوله - سبحانه - { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } . بيان لعدالة الله - تعالى - وأنه - سبحانه - لا يظلم الناس شيئا .
أى : وما ظلمهم الله حين أنزل بهم عقابه : ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم بترديهم فى الكفر ، وإصرارهم عليه ، ومحاربتهم لمن جاء لإِخراجهم من الظلمات إلى النور .
وفي ظل هذا المشهد بشقيه . مشهد الاحتضار ومشهد البعث . يعقب السياق بسؤال عن المشركين من قريش : ماذا ينتظرون ؟ أينتظرون الملائكة فتتوفاهم ؟ أم ينتظرون أمر الله فيبعثهم . وهذا ما ينتظرهم عند الوفاة ، وما ينتظرهم يوم يبعثهم الله ! أو ليس في مصير المكذبين قبلهم وقد شهدوه ممثلا في ذينك المشهدين عبرة وغناء :
( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك ؟ كذلك فعل الذين من قبلهم ، وما ظلمهم الله ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) .
وعجيب أمر الناس . فإنهم يرون ما حل بمن قبلهم ممن يسلكون طريقهم ، ثم يظلون سادرين في الطريق غير متصورين أن ما أصاب غيرهم يمكن أن يصيبهم ، وغير مدركين أن سنة الله تمضي وفق ناموس مرسوم ، وأن المقدمات تعطي دائما نتائجها ، وأن الأعمال تلقى دائما جزاءها ، وأن سنة الله لن تحابيهم ولن تتوقف إزاءهم ، ولن تحيد عن طريقهم .
( وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) فقد آتاهم الله حرية التدبر والتفكر والاختيار ، وعرض عليهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم ، وحذرهم العاقبة ، ووكلهم إلى عملهم وإلى سنته الجارية . فما ظلمهم في مصيرهم المحتوم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .
يقول تعالى متهددًا للمشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا : هل ينتظر هؤلاء إلا الملائكة أن تأتيهم بقبض أرواحهم ، قاله قتادة .
{ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ }{[16421]} أي : يوم القيامة وما يعاينونه{[16422]} من الأهوال .
وقوله : { كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : هكذا تمادى في شركهم أسلافهم ونظراؤهم وأشباههم من المشركين حتى{[16423]} ذاقوا بأس الله ، وحلوا فيما هم فيه من العذاب والنكال . { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ } ؛ لأنه تعالى أعذر إليهم ، وأقام حججه عليهم بإرسال رسله وإنزال كتبه ، { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي : بمخالفة الرسل والتكذيب بما جاءوا به ،
{ ينظرون } معناه ينتظرون ، ونظر متى كانت من رؤية العين فإنما تعديها العرب ب «إلى » ، ومتى لم تتعد ب «إلى » فهو بمعنى انتظر ، كما قال امرؤ القيس :
فإنكما إن تنظراني ساعة . . . من الدهر تنفعني لدى أم جندب{[7293]}
ومنه قوله تعالى حكاية { انظرونا نقتبس من نوركم{[7294]} } [ الحديد : 13 ] وقد جاء شاذاً نظرت بمعنى الرؤية متعدياً بغير إلى كقول الشاعر :
باهرات الجمال والحسن ينظر . . . ن كما تنظر الأراك الظباء{[7295]}
وقرأ الجمهور «تأتيهم » بالتاء من فوق ، وقرأ حمزة والكسائي «يأتيهم » بالياء ، وهي قراءة يحيى بن وثاب وطلحة والأعمش ، ومعنى الكلام أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ظالمي أنفسهم ، وقوله { أو يأتي أمر ربك } وعيد يتضمن قيام الساعة أو عذاب الدنيا ، ثم ذكر تعالى أن هذا كان فعل أسلافهم من الأمم ، أي فعوقبوا ولم يكن ذلك ظلماً لأنه لم يوضع ذلك العقاب في غير موضعه ، ولكن ظلموا أنفسهم بأن وضعوا كفرهم في جهة الله وميلهم إلى الأصنام والأوثان ، فهذا وضع الشيء في غير موضعه ، أي آذوها بنفس فعلهم ، وإن كانوا لم يقصدوا ظلمها ولا إذايتها .
استئناف بياني ناشىء عن جملة { قد مكر الذين من قبلهم } [ سورة الرعد : 42 ] لأنّها تثير سؤال من يسأل عن إبّان حلول العذاب على هؤلاء كما حلّ بالّذين من قبلهم ، فقيل : ما ينظرون إلا أحد أمرين هما مجيء الملائكة لقبض أرواحهم فيحقّ عليهم الوعيد المتقدم ، أو أن يأتي أمرُ الله . والمراد به الاستئصال المعرّض بالتهديد في قوله : { فأتى الله بنيانهم من القواعد } [ سورة النحل : 26 ] .
والاستفهام إنكاري في معنى النّفي ، ولذلك جاء بعده الاستثناء .
{ وينظرون } هنا بمعنى الانتظار وهو النظِرة . والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم تذكيراً بتحقيق الوعيد وعدم استبطائه وتعريضاً بالمشركين بالتحذير من اغترارهم بتأخّر الوعيد وحثّاً لهم على المبادرة بالإيمان .
وإسناد الانتظار المذكور إليهم جار على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيلهم منزلة من ينتظر أحد الأمرين ، لأنّ حالهم من الإعراض عن الوعيد وعدم التفكّر في دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم مع ظهور تلك الدلائل وإفادتها التحقّق كحال من أيقن حلول أحد الأمرين به فهو يترقّب أحدهما ، كما تقول لمن لا يأخذ حِذره من العدوّ : ما تترقّب إلاّ أن تقع أسيراً . ومنه قوله تعالى : { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } [ سورة يونس : 102 ] وقوله تعالى : { إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين } [ سورة القصص : 19 ] . وهذا قريب من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه وما هو بذلك .
وجملة { كذلك فعل الذين من قبلهم } تنظير بأحوال الأمم الماضية تحقيقاً للغرضين .
والإشارة إلى الانتظار المأخوذ من { ينظرون } المراد منه الإعراض والإبطاء ، أي كإبطائهم فعل الذين من قبلهم ، فيوشك أن يأخذهم العذاب بغتة كما أخذ الذين من قبلهم . وهذا تحذير لهم وقد رفع الله عذاب الاستئصال عن أمّة محمد عليه الصلاة والسلام ببركته ولإرادته انتشار دينه .
و { الذين من قبلهم } هم المذكورن في قوله تعالى : { قد مكر الذين من قبلهم } [ سورة الرعد : 42 ] .
وجملة { وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } معترضة بين جملة { الذين من قبلهم } [ سورة النحل : 33 ] وجملة { فأصابهم سيئات ما عملوا } .
ووجه هذا الاعتراض أن التعرّض إلى ما فعله الذين من قبلهم يشير إلى ما كان من عاقبتهم وهو استئصالهم ، فعُقب بقوله تعالى : { وما ظلمهم الله } ، أي فيما أصابهم .
ولمّا كان هذا الاعتراض مشتملاً على أنهم ظلموا أنفسهم صار تفريع { فأصابهم سيئات ما عملوا } عليه أو على ما قبله . وهو أسلوب من نظم الكلام عزيز . وتقديرُ أصله : كذلك فعل الذين من قبلهم وظلموا أنفسهم فأصابهم سيئات ما عملوا وما ظلمهم الله . ففي تغيير الأسلوب المتعارف تشويق إلى الخبر ، وتهويل له بأنه ظُلم أنفسهم ، وأن الله لم يظلمهم ، فيترقّب السامع خبراً مفظعاً وهو { فأصابهم سيئات ما عملوا } .