وقوله - عز وجل - : { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً . . } يصح أن يكون كلاما مستأنفا ساقه الله - تعالى - لبيان سوء عاقبة المجرمين ، وحسن عاقبة المؤمنين .
ويصح أن يكون من بقية كلام السحرة فى ردهم على فرعون .
والمعنى : { إِنَّهُ } أى الحال والشأن { مَن يَأْتِ رَبَّهُ } يوم القيامة فى حال كونه { مُجْرِماً } .
أى : مرتكبا لجريمة الكفر والشرك بالله - تعالى - { فَإِنَّ لَهُ } أى : لهذا المجرم { جَهَنَّمَ } يعذب فيها عذابا شديدا من مظاهره أنه { لاَ يَمُوتُ فِيهَا } فيستريح { وَلاَ يحيى } حياة فيها راحة .
كما قال - تعالى - : { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ }
وألهم السحرة الذين آمنوا بربهم أن يقفوا من الطاغية موقف المعلم المستعلي :
إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا . ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى . جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى .
فإذا كان يتهددهم بمن هو أشد وأبقى . فها هي ذي صورة لمن يأتي ربه مجرما هي أشد عذابا وأدوم ( فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا ) فلا هو ميت فيستريح ، ولا هو حي فيتمتع . إنما هو العذاب الذي لا ينتهي إلى موت ولا ينتهي إلى حياة . .
الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون ، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي ، ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد ، فقالوا : { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا } أي : يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم ، { فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا } كقوله : { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } [ فاطر : 36 ] ، وقال : { وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا } [ الأعلى : 11 - 13 ] ، وقال تعالى : { وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } [ الزخرف : 77 ] .
وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا إسماعيل ، أخبرنا سعيد بن يزيد ، عن أبي نَضْرَة ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أهل النار الذين هم أهلها ، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن [ الناس ]{[19435]} تصيبهم النار بذنوبهم ، فتميتهم إماتة ، حتى إذا صاروا فحمًا ، أذن في الشفاعة ، جيء بهم ضبائر ، ضبائر ، فبُثُّوا على أنهار الجنة ، فيقال : يا أهل الجنة ، أفيضوا عليهم{[19436]} فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل "
فقال رجل من القوم : كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية .
وهكذا أخرجه مسلم في كتابه الصحيح من رواية شعبة وبشر بن المفضل ، كلاهما عن أبي مَسْلَمة{[19437]} سعيد بن يزيد به{[19438]} .
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال : حدثنا أبي حدثنا حيان ، سمعت سليمان التيمي ، عن أبي نَضْرَة ، عن أبي سعيد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطَبَ فأتى على هذه الآية : { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا } ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما أهلها الذين هم أهلها ، فلا يموتون فيها ولا يحيون ، وأما الذين ليسوا من أهلها ، فإن النار تمسهم ، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون ، فتجعل الضبائر ، فيؤتى{[19439]} بهم نهرا يقال له : الحياة - أو : الحيوان - فينبتون كما ينبت القثَّاء في حميل السيل " .
قالت فرقة هذه الآية بجملتها من كلام السحرة لفرعون على جهة الموعظة له والبيان فيما فعلوه ، وقالت فرقة بل هي من كلام الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة وتحذيراً قد ضمنت القصة المذكورة مثاله . و «المجرم » الذي اكتسب الخطايا والجرائم ، وقوله { لا يموت فيها ولا يحيى } مختص بالكافر فإنه معذب عذاباً ينتهي به إلى الموت ثم لا يجهز عليه فيستريح ، بل يعاد جلده ويجدد عذابه ، فهو لا يحيى حياة هنية ، وأما من يدخل النار من المؤمنين بالمعاصي فهم قبل أن تخرجهم الشفاعة في غمرة قد قاربوا الموت ، إلا أنهم لا يجهز عليهم ولا يجدد عذابهم فهذا فرق ما بينهم وبين الكفار . وفي الحديث الصحيح «أنهم يماتون إماتة » وهذا هو معناه لأنه لا يموت في الآخرة .
هذه الجمل معترضة بين حكاية قصة السحرة وبين ذكر قصّة خروج بني إسرائيل ، ساقها الله موعظة وتأييداً لمقالة المؤمنين من قوم فرعون . وقيل : هي من كلام أولئك المؤمنين . ويبعده أنه لم يحك نظيره عنهم في نظائر هذه القصّة .
والمجرم : فاعل الجريمة ، وهي المعصية والفعل الخبيث . والمجرم في اصطلاح القرآن هو الكافر ، كقوله تعالى : { إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون } [ المطففين : 29 ] .
واللام في { لَهُ جَهَنَّمَ } لامُ الاستحقاق ، أي هو صائر إليها لا محالة ، ويكون عذابه متجدّداً فيها ؛ فلا هو ميت لأنّه يُحِس بالعذاب ولا هو حيّ لأنه في حَالةٍ الموتُ أهون منها ، فالحياة المنفية حياة خاصة وهي الحياة الخالصة من العذاب والآلام . وبذلك لم يتناقض نفيها مع نفي الموت ، وهو كقول عبّاس بن مرداس :
وقد كنتُ في الحرب ذَا تُدْرَإٍ *** فلم أُعْطَ شيئاً ولم أُمنع
وليس هذا من قبيل قوله { إنها بقرة لا فارض ولا بكر } [ البقرة : 68 ] ولا قوله { زيتونة لا شرقية ولا غربية } [ النور : 35 ] .
وأما خلود غير الكافرين في النّار من أهل الكبائر فإن قوله { لا يَمُوتُ فِيهَا ولا يحيى } جعلها غير مشمولة لهذه الآية . ولها أدلّة أخرى اقتضت خلود الكافر وعدم خلود المؤمن العاصي . ونازَعَنَا فيها المعتزلة والخوارج . وليس هذا موضع ذكرها وقد ذكرناها في مواضعها من هذا التفسير .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل السحرة لفرعون:"إنّهُ مَنْ يأْتِ ربه" من خلقه "مُجْرِما "يقول: مكتسبا الكفر به، "فإنّ لَهُ جَهَنّمَ" يقول: فإن له جهنم مأوى ومسكنا، جزاء له على كفره، "لا يَمُوتُ فِيها" فتخرج نفسه "وَلا يَحْيا" فتستقرّ نفسه في مقرّها فتطمئنّ، ولكنها تتعلق بالحناجر منهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى} {ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى} أصل هذا، والله أعلم، أن من قبل من الله حياته بالشكر، وطيبها بالأعمال الصالحات طيب الله حياته وعيشه في الآخرة. ومن لم يقبل حياته من الله تعالى بالشكر في الدنيا، بل كفر بها، وخبثها، وقبحها بالأعمال القبيحة الخبيثة الدنية، خبثت حياته وعيشه في الآخرة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قالت فرقة هذه الآية بجملتها من كلام السحرة لفرعون على جهة الموعظة له والبيان فيما فعلوه، وقالت فرقة بل هي من كلام الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة وتحذيراً قد ضمنت القصة المذكورة مثاله.
و«المجرم» الذي اكتسب الخطايا والجرائم،..
{لا يموت فيها ولا يحيى} مختص بالكافر فإنه معذب عذاباً ينتهي به إلى الموت ثم لا يجهز عليه فيستريح، بل يعاد جلده ويجدد عذابه، فهو لا يحيى حياة هنية، وأما من يدخل النار من المؤمنين بالمعاصي فهم قبل أن تخرجهم الشفاعة في غمرة قد قاربوا الموت، إلا أنهم لا يجهز عليهم ولا يجدد عذابهم فهذا فرق ما بينهم وبين الكفار. وفي الحديث الصحيح «أنهم يماتون إماتة» وهذا هو معناه لأنه لا يموت في الآخرة.
الجسم الحي لا بد وأن يبقى إما حيا أو يصير ميتا فخلوه عن الوصفين محال، فمعناه في الآية أنه يكون في جهنم بأسوأ حال لا يموت موتة مريحة ولا يحيا حياة ممتعة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي، ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد، فقالوا: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} أي: يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} كقوله: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36]، وقال: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى: 11 -13]، وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77]...
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن [الناس] تصيبهم النار بذنوبهم، فتميتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحمًا، أذن في الشفاعة، جيء بهم ضبائر، ضبائر، فبُثُّوا على أنهار الجنة، فيقال: يا أهل الجنة، أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل" فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية. وهكذا أخرجه مسلم في كتابه الصحيح من رواية شعبة وبشر بن المفضل، كلاهما عن أبي مَسْلَمة سعيد بن يزيد به...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وألهم السحرة الذين آمنوا بربهم أن يقفوا من الطاغية موقف المعلم المستعلي:
إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا. ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى. جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى.
فإذا كان يتهددهم بمن هو أشد وأبقى. فها هي ذي صورة لمن يأتي ربه مجرما هي أشد عذابا وأدوم (فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا) فلا هو ميت فيستريح، ولا هو حي فيتمتع. إنما هو العذاب الذي لا ينتهي إلى موت ولا ينتهي إلى حياة..