{ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } أى : فأضمر فى نفسه خوفا منهم حين رأى إعراضا عن طعامه ، مع حضهم على الأكل منه ، ومع جودة هذا الطعام .
وهنا كشف الملائكة له عن ذواتهم فقالوا { لاَ تَخَفْ } أى : لا تخف فإنا رسل الله { وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ } أى : وبشروه بغلام سيولد له ، وسيكون كثير العلم عندما يبلغ سن الرشد ، وهذا الغلام إسحاق - عليه السلام - .
وقوله : { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } : هذا محال على ما تقدم في القصة في السورة الأخرى ، وهو{[27439]} قوله : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ } [ هود : 70 ، 71 ] أي : استبشرت بهلاكهم ؛ لتمردهم وعتوهم على الله ، فعند ذلك بشرتها الملائكة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب . { قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } [ هود 72 ، 73 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } ، فالبشارة له هي بشارة لها ؛ لأن الولد منهما ، فكل منهما بشر به .
فلما استمروا على ترك الأكل { أوجس منهم خيفة } . والوجيس تحسيس النفس وخواطرها في الحذر . وذلك أن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه والطعام حرمة و ذمام . والامتناع منه وحشة . فخشي إبراهيم عليه السلام أن امتناعهم من أكل طعامه إنما هو لشر يريدونه ، فقالوا له : { لا تخف } وعرفوه أنهم ملائكة ، { وبشروه } وبشروا سارة معه { بغلام عليم } . أي عالم في حال تكليفه وتحصيله ، أي سيكون عليماً و : { عليم } بناء مبالغة . وجمهور الناس على أن الغلام هنا إسحاق ابن سارة الذي ذكرت البشارة به في غير موضع . وقال مجاهد ، هذا الغلام هو إسماعيل . والأول أرجح ، وهذا وهم . ويروى أنه إنما عرف كونهم ملائكة استدلالاً من بشارتهم إياه بغيب .
الفاء في { فأوجس منهم خيفة } فصيحة لإفصاحها عن جملة مقدرة يقتضيها ربط المعنى ، أي فلم يأكلوا فأوجس منهم خيفة ، كقوله : { أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] ، وقد صرح بذلك في سورة هود { فلما رأى أيديهم لا تصل إليه ( أي إلى العجل ) نِكرهم وأوجس منهم خيفة } [ هود : 70 ] .
و { أوجس } أحس في نفسه ولم يُظهر ، وتقدم نظيره في سورة هود . وقولهم له { لا تخف } لأنهم علموا ما في نفسه مما ظهر على ملامحه من الخوف ، وتقدم نظيره في سورة هود .
والغلام الذي بَشروه به هو إسحاق لأنه هو ابن سارة ، وهو الذي وقعت البشارة به في هذه القصة في التوراة ، ووصف هنا ب { عليم } ، وأما الذي ذُكرت البشارة به في سورة الصافات ( 101 ) فهو إسماعيل ووُصف ب { حليم } ولذلك فامرأة إبراهيم الحادث عنها هنا هي سارة ، وهي التي ولدت بعد أن أيست ، أما هاجر فقد كانت فتاةً ولَدت في مقتبل عمرها . وأقبلت امرأته حين سمعت البشارة لها بغلام ، أي أقبلت على مجلس إبراهيم مع ضيفه ، قال تعالى في سورة هود ( 71 ) { وامرأتُه قائمة }
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فَقَرّبهُ إلَيْهِمْ قالَ ألا تَأْكُلُونَ "وفي الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر عليه منه وهو فقرّبه إليهم، فأمسكوا عن أكله، فقال: ألا تأكلون؟
"فأوجس منهم"، يقول: فأوجس في نفسه إبراهيم من ضيفه خيفة وأضمرها "قالُوا لا تَخَفْ وَبَشرُوهُ بغُلامٍ عَلِيمٍ" يعني: بإسحاق، وقال: عليم بمعنى عالم إذا كبر، وذكر الفراء أن بعض المشيخة كان يقول: إذا كان للعلم منتظرا قيل: إنه لعالم عن قليل وغاية، وفي السيد سائد، والكريم كارم. قال: والذي قال حسن. قال: وهذا أيضا كلام عربيّ حسن قد قاله الله في عليم وحكيم وميت...
وإنما قلت: عنى به إسحاق، لأن البشارة كانت بالولد من سارّة، وإسماعيل لهاجرَ لا لسارّة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قالوا لا تخف} لذلك أُرسلنا، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وبشّروه بغلام عليم} يحتمل قوله: {عليم} وجهين:
أحدهما: أي بشّروه بغلام، يصير عليما إذا كَبِر.
والثاني: {وبشّروه بغلام} بولد {عليم} يُؤتيه الله تعالى علما في بطن أمه، أو إذا وُلد يؤتيه علما في صغره. ولله أن يُؤتيَ العلم من يشاء في حال الصِّغر والكِبر. ألا ترى أنه قال: عز وجل في عيسى عليه السلام: {وآتيناه الحُكم صبيًّا}؟ [مريم: 12]. فعلى ذلك الغلام، هو إسحاق عليه السلام لأنه بيّن في آية أخرى في من كانت البشارة حين قال: {وبشّرناه بإسحاق} [الصافات: 112] دلّ أن البِشارة إنما كانت بإسحاق. ثم ذكر في سورة هود عليه السلام البشارة لامرأته حين قال: {فبشّرناها بإسحاق} [الآية: 71] وذكر في هذه السورة البشارة لإبراهيم عليه السلام بقوله: {وبشّروه بغلام عليم} [الذاريات: 28]. لكن جائز أنه لما بشّرها بالولد بشّرها بالولد منه، وإذا بشّروا إبراهيم عليه السلام بالولد بشّروه بالولد منها. فإذا بُشّر أحدهما بالولد من الآخر فتكون البشارة لهما جميعا، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"لا تخف " يا إبراهيم فإنا رسل الله وملائكته أرسلنا الله إلى قوم لوط لنهلكهم.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(فأوجس منهم خيفة) أي: دخل في نفسه منهم خيفة. وفي التفسير: أن السبب في ذلك أن الرجل كان إذا طرقه ضيف فقدّم إليه شيئا وأكله أمِن منه، وإن لم يأكل خاف شره...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فلما استمروا على ترك الأكل {أوجس منهم خيفة}. والوجيس: تحسيس النفس وخواطرها في الحذر. وذلك أن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه، والطعام حرمة و ذمام، والامتناع منه وحشة. فخشي إبراهيم عليه السلام أن امتناعهم من أكل طعامه إنما هو لشر يريدونه، فقالوا له: {لا تخف} وعرفوه أنهم ملائكة. ويروى أنه إنما عرف كونهم ملائكة استدلالاً من بشارتهم إياه بغيب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{عليم} أي مجبول جبلة مهيأة للعلم ولا يموت حتى يظهر علمه بالفعل في أوانه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الفاء في {فأوجس منهم خيفة} فصيحة لإفصاحها عن جملة مقدرة يقتضيها ربط المعنى، أي فلم يأكلوا فأوجس منهم خيفة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالُواْ لاَ تَخَفْ} فلسنا بشراً لنأكل كما يأكل البشر، بل نحن من الملائكة المرسلين إليك من قبل الله، {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلَيمٍ} فزال خوفه منهم، وتقبَّل البشارة بوعي رسوليّ إيمانيّ مؤمن بقدرة الله، أما امرأته، فقد هزتها المفاجأة بشدة، لأنها لم تكن تنتظر هذا الحدث.