السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَةٗۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٖ} (28)

{ فأوجس } أي أضمر في نفسه { منهم خيفة } لما رأى إعراضهم على طعامه لظنه أنهم جاؤوه لشرّ . وقيل : وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا بعذاب فلما عرفوا منه ذلك { قالوا } مؤنسين له { لا تخف } وأعلموه أنهم رسل الله { وبشروه بغلام } يأتيه على شيخوخته ويأس امرأته بالطعن في السنّ بعد عقمها وهو إسحاق عليه السلام { عليم } أي مجبول جبلة مهيأة للعلم ولا يموت حتى يظهر علمه بالفعل في أوانه ، فإنّ جميع الأنبياء بعده من ذريته إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه من ذرية إسماعيل عليه السلام .

تنبيه : ذكر هاهنا من آداب الضيافة تسليم المضيف على الضيف ولقاءه بالوجه الحسن والمبالغة في الإكرام بقوله سلام وهو آكد وسلامهم بالمصدر في قوله سلام بالرفع زيادة على ذلك ولم يقل سلام عليكم ، لأنّ الامتناع من الطعام يدل على العداوة ، والغدر لا يليق بالأنبياء فقال : سلام أي امرئ مسالمة ثم فيها من آداب المضيف تعجيل الضيافة فإنّ الفاء في قوله فراغ تدل على التعقيب وإخفائها .

لأن الروغان يقتضي الإخفاء وغيبة المضيف عن الضيف ليستريح ويأتي بما يمنعه الحياء منه ويخدم الضيف بنفسه ويختار الأجود لقوله سمين ، ويقدّم الطعام للضيف في مكانه ولا ينقل الضيف للطعام لقوله قربه إليهم ، ويعرض الأكل عليه ولا يأمره لقوله تعالى { قال ألا تأكلون } ولم يقل كلوا وسروره بأكله لا كما يوجد في بعض البخلاء الذين يحضرون طعاماً كثيراً ، ويجعل نظره ونظر أهل بيته إلى الطعام حتى يمسك الضيف يده عنه لقوله تعالى : { فأوجس منهم خيفة } لعدم أكلهم .

ومن آداب الضيف إذا حضر الطعام ولم يكن يصلح له لكونه مضرّاً به أو يكون ضعيف القوّة عن هضم ذلك الطعام أن لا يقول هذا طعام غليظ لا يصلح لي بل يأتي بعبارة حسنة ويقول : فيّ مانع من أكل الطعام لأنهم أجابوه بقولهم { لا تخف } ولم يذكروا في الطعام شيئاً ولا أنه يضر بهم بل بشروه بالولد إشعاراً بأنهم ملائكة وبشروه بالأشرف وهو الذكر ، حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون ثم وصفوه بالعلم دون المال والجمال ؛ لأنّ العلم أشرف الصفات .

ثم أدب آخر في البشارة وهو أن لا يخبر الإنسان بما يسرّه دفعة واحدة لأنه يورث مرضاً لأنهم جلسوا واستأنس بهم إبراهيم ثم قالوا نبشرك فإن قيل : قال تعالى في سورة هود { فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم } [ هود : 70 ] فدل على أنّ إنكاره ، حصل بعد تقريب العجل إليهم وهاهنا قال { فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون } ثم قال { فراغ إلى أهله } بفاء التعقيب وذلك يدل على أنّ تقريب الطعام منهم بعد حصول إنكاره فما وجهه ؟ أجيب بأن يقال لعلهم كانوا مخالفين لصفة الناس في الشكل والهيئة ولذلك قال { قوم منكرون } أي عند كل أحد واشترك إبراهيم عليه السلام وغيره فيه ولهذا لم يقل أنكرتم بل قال : أنتم منكرون في أنفسكم عند كل أحد منا ، ثم لما امتنعوا من الطعام تأكد الإنكار لأنّ إبراهيم تفرّد بمشاهدة إمساكهم فنكرهم فوق الإنكار الأوّل وحكاية الحال في سورة هود أبسط مما ذكره هاهنا ، فإنه هنا لم يبين المبشر به وهناك ذكره باسمه وهو إسحاق وهاهنا لم يقل إنّ القوم قوم من ، وهناك قال : قوم لوط .

ولما كانا بعيدين عن قبول الولد تسبب عن ذلك قوله تعالى دالاً على أنّ الولد إسحاق مع الدلالة على أنّ خفاء الأسباب لا يؤثر في وجود المسببات .