مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَةٗۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٖ} (28)

قوله تعالى : { فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين * فقربه إليهم قال ألا تأكلون } بفاء التعقيب فدل على أن تقريب الطعام منهم بعد حصول الإنكار لهم ، فما الوجه فيه ؟ نقول : جاز أن يحصل أولا عنده منهم نكر ثم زاد عند إمساكهم ، والذي يدل على هذا هو أنهم كانوا على شكل وهيئة غير ما يكون عليه الناس وكانوا في أنفسهم عند كل أحد منكرين ، واشترك إبراهيم عليه السلام وغيره فيه ولهذا لم يقل أنكرتكم بل قال : أنتم { منكرون } في أنفسكم عند كل أحد منا ، ثم إن إبراهيم عليه السلام تفرد بمشاهدة أمر منهم هو الإمساك فنكرهم فوق ما كان منهم بالنسبة إلى الكل لكن الحالة في سورة هود محكية على وجه أبسط مما ذكره هاهنا ، فإن هاهنا لم يبين المبشر به ، وهناك ذكر باسمه وهو إسحاق ، ولم يقل هاهنا إن القوم قوم من وهناك قال قوم لوط ، وفي الجملة من يتأمل السورتين يعلم أن الحكاية محكية هناك على وجه الإضافة أبسط ، فذكر فيها النكتة الزائدة ، ولم يذكر هاهنا .

ولنعد إلى بيان ما أتى به من آداب الإضافة وما أتوا به من آداب الضيافة ، فالإكرام أولا ممن جاءه ضيف قبل أن يجتمع به ويسلم أحدهما على الآخر أنواع من الإكرام وهي اللقاء الحسن والخروج إليه والتهيؤ له .

ثم السلام من الضيف على الوجه الحسن الذي دل عليه النصب في قوله : { سلاما } إما لكونه مؤكدا بالمصدر أو لكونه مبلغا ممن هو أعظم منه .

ثم الرد الحسن الذي دل عليه الرفع والإمساك عن الكلام لا يكون فيه وفاء إن إبراهيم عليه السلام لم يقل سلام عليكم بل قال أمري مسالمة أو قولكم سلام وسلامكم منكر فإن ذلك وإن كان مخلا بالإكرام ، لكن العذر ليس من شيم الكرام ومودة أعداء الله لا تليق بالأنبياء عليهم السلام .

ثم تعجيل القرى الذي دل عليه قوله تعالى : { فما لبث أن جاء } وقوله هاهنا : { فراغ } فإن الروغان يدل على السرعة والروغ الذي بمعنى النظر الخفي أو الرواح المخفي أيضا كذلك .

ثم الإخفاء فإن المضيف إذا أحضر شيئا ينبغي أن يخفيه عن الضيف كي لا يمنعه من الإحضار بنفسه حيث راغ هو ولم يقل هاتوا ، وغيبة المضيف لحظة من الضيف مستحسن ليستريح ويأتي بدفع ما يحتاج إليه ويمنعه الحياء منه ثم اختيار الأجود بقوله : { سمين } .

ثم تقديم الطعام إليهم لا نقلهم إلى الطعام بقوله : { فقربه إليهم } لأن من قدم الطعام إلى قوم يكون كل واحد مستقرا في مقره لا يختلف عليه المكان فإن نقلهم إلى مكان الطعام ربما يحصل هناك اختلاف جلوس فيقرب الأدنى ويضيق على الأعلى .

ثم العرض لا الأمر حيث قال : { ألا تأكلون } ولم يقل كلوا ثم كون المضيف مسرورا بأكلهم غير مسرور بتركهم الطعام كما يوجد في بعض البخلاء المتكلفين الذين يحضرون طعاما كثيرا ويكون نظره ونظر أهل بيته في الطعام متى يمسك الضيف يده عنه ، يدل عليه .

قوله تعالى : { فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم } ثم أدب الضيف أنه إذا أكل حفظ حق المؤاكلة ، يدل عليه أنه خافهم حيث لم يأكلوا .

ثم وجوب إظهار العذر عند الإمساك يدل عليه قوله : { لا تخف } .

ثم تحسين العبارة في العذر وذلك لأن من يكون محتميا وأحضر لديه الطعام فهناك أمران :

( أحدهما ) أن الطعام لا يصلح له لكونه مضرا به .

( الثاني ) كونه ضعيف القوة عن هضم ذلك الطعام ؛ فينبغي أن لا يقول الضيف هذا طعام غليظ لا يصلح لي ؛ بل الحسن أن يأتي بالعبارة الأخرى ويقول : لي مانع من أكل الطعام ، وفي بيتي لا آكل أيضا شيئا ، يدل عليه قوله : { وبشروه بغلام } حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون ولم يقولوا لا يصلح لنا الطعام والشراب .

ثم أدب آخر في البشارة أن لا يخبر الإنسان بما يسره دفعة فإنه يورث مرضا يدل عليه أنهم جلسوا واستأنس بهم إبراهيم عليه السلام ثم قالوا نبشرك ثم ذكروا أشرف النوعين وهو الذكر ولم يقتنعوا به حتى وصفوه بأحسن الأوصاف فإن الابن يكون دون البنت إذا كانت البنت كاملة الخلقة حسنة الخلق والابن بالضد ، ثم إنهم تركوا سائر الأوصاف من الحسن والجمال والقوة والسلامة واختاروا العلم إشارة إلى أن العلم رأس الأوصاف ورئيس النعوت ، وقد ذكرنا فائدة تقديم البشارة على الإخبار عن إهلاكهم قوم لوط ، ليعلم أن الله تعالى يهلكهم إلى خلف ، ويأتي ببدلهم خيرا منهم .