قوله تعالى : { ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم } ، وكذبوه ، { قضي بينهم بالقسط } ، أي عذبوا في الدنيا وأهلكوا بالعذاب ، يعني : قبل مجيء الرسول ، لا ثواب ولا عقاب . وقال مجاهد ومقاتل : فإذا جاء رسولهم الذي أرسل إليهم يوم القيامة قضي بينه وبينهم بالقسط ، { وهم لا يظلمون } ، لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة ولا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم .
ثم بين - سبحانه - أن من مظاهر رحمته بعباده ، أن جعل لكل أمة رسولا يهديها إلى الحق وإلى الطريق المستقيم فقال - تعالى - : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .
أى : أنه - سبحانه - اقتضت حكمته ورحمته أن يجعل لكل جماعة من الناس ، رسولا يبلغهم ما أمره الله بتبليغه ، ويشهد عليهم بذلك يوم القيامة ، فإذا جاء رسولهم وشهد بأنه قد بلغهم ما أمره الله به ، قضى - سبحانه - بينه وبينهم بالعدل ، فحكم بنجاة المؤمن وبعقوبة الكافر ، ولا يظلم ربك أحدا .
قال الإِمام ابن كثير عند تفسير لهذه الآية " فكل أمة تعرض على الله - تعالى - بحضرة رسولها ، وكتاب أعمالها من خير أو شر شاهد عليهم ، وحفظتهم من الملائكة شهود أيضا أمة بعد أمة ، وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق ، إلا أنها أول الأمم يوم القيامة ، يفصل بينهم ويقضى لهم جاء في الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، المقضى لهم قبل الخلائق ، فأمته إنما حازت قصب السبق بشرف رسولها - صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين " .
ولكن كل قوم يُنظرون حتى يجيء رسولهم ، فينذرهم ويبين لهم ، وبذلك يستوفون حقهم الذي فرضه الله على نفسه بألا يعذب قوما إلا بعد الرسالة ، وبعد الإعذار لهم بالتبيين . وعندئذ يقضي بينهم بالقسط حسب استجابتهم للرسول :
( ولكل أمة رسول ، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ) . .
ونقف من هاتين الآيتين أمام حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية التي يرتكز عليها التصور الإسلامي كله . وعناية المنهج القرآني بتوضيحها وتقريرها في كل مناسبة ، وفي صور شتى متنوعة . .
إنه يقال للرسول [ ص ] إن أمر هذه العقيدة ، وأمر القوم الذين يخاطبون بها . كله لله ، وأن ليس لك من الأمر شيء . دورك فيها هو البلاغ ، أما ما وراء ذلك فكله لله . وقد ينقضي أجلك كله ولا ترى نهاية القوم الذين يكذبونك ويعاندونك ويؤذونك ، فليس حتماً على الله أن يريك عاقبتهم ، وما ينزله بهم من جزاء . . هذا له وحده سبحانه ! اما أنت - وكل رسول - فعليك البلاغ . . ثم يمضي الرسول ويدع الأمر كله لله . . ذلك كي يعلم العبيد مجالهم ، وكي لا يستعجل الدعاة قضاء الله مهما طال عليهم في الدعوة ، ومهما تعرضوا فيها للعذاب ! !
وقوله : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ } قال مجاهد : يعني يوم القيامة .
{ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } كما قال تعالى : { وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ{[14258]} وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [ الزمر : 69 ] ، فكل أمة تعرض على الله بحضرة رسولها ، وكتابُ أعمالها من خير وشر موضوعٌ شاهد عليهم ، وحفظتهم من الملائكة شهودٌ أيضا أمة بعد أمة . وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق ، إلا أنها أول الأمم يوم القيامة يفصل بينهم ، ويقضى لهم ، كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نحن
الآخرون السابقون يوم القيامة ، المقضى لهم قبل الخلائق " {[14259]} فأمته إنما حازت قَصَب السبق لشرف رسولها ، صلوات الله وسلامه عليه [ دائمًا ]{[14260]} إلى يوم الدين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِكُلّ أُمّةٍ رّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولكلّ أمة خلت قبلكم أيها الناس رسول أرسلته إليهم ، كما أرسلت محمدا إليكم يدعون من أرسلتهم إليهم إلى دين الله وطاعته . فإذا جَاءَ رَسُولُهُمْ يعني في الاَخرة كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ولِكُلّ أُمّةٍ رَسُولٌ فإذَا جاء رَسَوُلُهُمْ قال : يوم القيامة .
وقوله : قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ يقول قضي حينئذ بينهم بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ من جزاء أعمالهم شيئا ، ولكن يجازي المحسن بإحسانه والمسيء من أهل الإيمان إما أن يعاقبه الله وأما أن يعفو عنه ، والكافر يخلد في النار فذلك قضاء الله بينهم بالعدل ، وذلك لا شكّ عدل لا ظلم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ قال : بالعدل .
قوله تعالى : { ولكل أمة رسول } ، إخبار مثل قوله تعالى : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى } {[6130]} وقال مجاهد وغيره : المعنى فإذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليم صير قوم للجنة وقوم للنار فذلك «القضاء بينهم بالقسط »{[6131]} وقيل : المعنى فإذا جاء رسولهم في الدنيا وبعث صاروا من حتم الله بالعذاب لقوم والمغفرة لآخرين لغاياتهم ، فذلك قضاء بينهم بالقسط ، وقرن بعض المتأولين هذه الآية بقوله { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً }{[6132]} وذلك يتفق إما بأن نجعل { معذبين } [ الاسراء : 15 ] في الآخرة ، وإما بأن نجعل «القضاء بينهم » في الدنيا بحيث يصح اشتباه الآيتين .
عطف على جملة : { وإما نرينك بعض الذي نعدهم } [ يونس : 46 ] ، وهي بمنزلة السبب لمضمون الجملة التي قبلها . وهذه بينت أن مجيء الرسول للأمة هي منتهى الإمهال ، وأن الأمة إن كذبت رسولها استحقت العقاب على ذلك . فهذا إعلام بأن تكذيبهم الرسول هو الذي يجر عليهم الوعيد بالعقاب ، فهي ناظرة إلى قوله تعالى : { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا } [ القصص : 59 ] وقوله : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } [ الإسراء : 15 ] .
وجملة : { لكل أمة رسول } ليست هي المقصود من الإخبار بل هي تمهيد للتفريع المفرع عليها بقوله : { فإذا جاء رسولهم } الخ ، فلذلك لا يؤخذ من الجملة الأولى تعين أن يرسل رسول لكل أمة لأن تعيين الأمة بالزمن أو بالنسب أو بالموطن لا ينضبط ، وقد تخلو قبيلة أو شعب أو عصر أو بلاد عن مجيء رسول فيها ولو كان خلوها زمناً طويلاً . وقد قال الله تعالى : { لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك } [ القصص : 46 ] . فالمعنى : ولكل أمة من الأمم ذواتِ الشرائع رسول معروف جاءها مثل عاد وثمود ومدين واليهودِ والكلدان . والمقصود من هذا الكلام ما تفرع عليه من قوله : { فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط } .
والفاء للتفريع و ( إذا ) للظرفية مجردة عن الاستقبال ، والمعنى : أن في زمن مجيء الرسول يكون القضاء بينهم بالقسط . وتقديم الظرف على عامله وهو ( قضي ) للتشويف إلى تلقي الخبر .
وكلمة ( بين ) تدل على توسط في شيئين أو أشياء ، فتعين أن الضمير الذي أضيفت إليه هنا عائد إلى مجموع الأمة ورسولها ، أي قُضي بين الأمةِ ورسولها بالعَدل ، أي قضَى اللّهُ بينهم بحسب عملهم مع رسولهم .
والمعنى : أن الله يمهل الأمة على ما هي فيه من الضلال فإذا أرسل إليها رسولاً فإرسالُه أمارة على أن الله تعالى أراد إقلاعهم عن الضلال فانتهى أمد الإمهال بإبلاغ الرسول إليهم مرادَ الله منهم فإن أطاعوه رضي الله عنهم وربحوا ، وإن عصوه وشاقوه قضى الله بين الجميع بجزاء كل قضاء حق لا ظلم فيه وهو قضاء في الدنيا .
وقد أشعر قوله : { قضي بينهم } بحدوث مشاقة بين الكافرين وبين المؤمنين وفيهم الرسول صلى الله عليه وسلم .
وهذا تحذير من مشاقة النبي صلى الله عليه وسلم وإنذار لأهل مكة بما نالهم . وقد كان من بركة النبي صلى الله عليه وسلم ورغبته أن أبقى الله على العرب فلم يستأصلهم ، ولكنه أراهم بطشته وأهلك قادتهم يوم بدر ، ثم ساقهم بالتدريج إلى حظيرة الإسلام حتى عمهم وأصبحوا دعاته للأمم وحملة شريعته للعالم .
ولما أشعر قوله : { قضي بينهم } بأن القضاء قضاء زجر لهم على مخالفة رسولهم وأنه عقاب شديد يكاد من يراه أو يسمعه أن يجول بخاطره أنه مبالغ فيه أتي بجملة { وهم لا يظلمون } ، وهي حال مؤكدة لعاملها الذي هو { قُضي بينهم بالقسط } للإشعار بأن الذنب الذي قضي عليهم بسببه ذنب عظيم .