مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلِكُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولٞۖ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمۡ قُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (47)

قوله تعالى { ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون }

اعلم أنه تعالى لما بين حال محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه ، بين أن حال كل الأنبياء مع أقوامهم كذلك . وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : هذه الآية تدل على أن كل جماعة ممن تقدم قد بعث الله إليهم رسولا . والله تعالى ما أهمل أمة من الأمم قط . ويتأكد هذا بقوله تعالى : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير }

فإن قيل : كيف يصح هذا مع ما يعلمه من أحوال الفترة ومع قوله سبحانه : { لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم }

قلنا : الدليل الذي ذكرناه لا يوجب أن يكون الرسول حاضرا مع القوم ، لأن تقدم الرسول لا يمنع من كونه رسولا إليهم ، كما لا يمنع تقدم رسولنا من كونه مبعوثا إلينا إلى آخر الأبد . وتحمل الفترة على ضعف دعوة الأنبياء ووقوع موجبات التخليط فيها .

المسألة الثانية : في الكلام إضمار والتقدير : فإذا جاء رسولهم وبلغ فكذبه قوم وصدقه آخرون قضى بينهم أي حكم وفصل .

المسألة الثالثة : المراد من الآية أحد أمرين : إما بيان أن الرسول إذا بعث إلى كل أمة فإنه بالتبليغ وإقامة الحجة يزيح كل علة فلا يبقى لهم عذر في مخالفته أو تكذيبه ، فيدل ذلك على أن ما يجري عليهم من العذاب في الآخرة يكون عدلا ولا يكون ظلما ، لأنهم من قبل أنفسهم وقعوا في ذلك العقاب ، أو يكون المراد أن القوم إذا اجتمعوا في الآخرة جمع الله بينهم وبين رسولهم في وقت المحاسبة ، وبان الفصل بين المطيع والعاصي ليشهد عليهم بما شاهد منهم ، وليقع منهم الاعتراف بأنه بلغ رسالات ربه فيكون ذلك من جملة ما يؤكد الله به الزجر في الدنيا كالمساءلة ، وإنطاق الجوارح ، والشهادة عليهم بأعمالهم والموازين وغيرها ، وتمام التقرير على هذا الوجه الثاني أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الله شهيد عليهم ، فكأنه تعالى يقول : أنا شهيد عليهم وعلى أعمالهم يوم القيامة ، ومع ذلك فإني أحضر في موقف القيامة مع كل قوم رسولهم ، حتى يشهد عليهم بتلك الأعمال . والمراد منه المبالغة في إظهار العدل .

واعلم أن دليل القول الأول هو قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقوله : { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وقوله : { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا } ودليل القول الثاني قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } إلى قوله : { ويكون الرسول عليكم شهيدا } وقوله : { وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرءان مهجورا } وقوله تعالى : { قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون } فالتكرير لأجل التأكيد والمبالغة في نفي الظلم .