وقوله - تعالى - : { التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة } صفة أخرى من صفات هذه النار ، وقوله : { تَطَّلِعُ } من الاطلاع ، بمعنى الوصول إلى الشيء بسرعة ، والكشف عن خباياه ، والنفاذ إلى منتهاه .
أى : سيلقى بهذا الشقي فى نار الله - تعالى - الموقدة ، التى تصل إلى أعماق الأفئدة والقلوب ، فتحيط بها ، وتنفذ إليها ، فتحرقها إحراقا تاما .
وخصت الأفئدة التى هي القلوب بالذكر ؛ لأنها ألطف ما في الأبدان وأشدها تألما بأدنى أذى يصيبها ، أو لأنها محل العقائد الزائفة ، والنيات الخبيثة ، ومنشأ الأعمال السيئة ، التي استحق هذا الهمزة اللمزة بسببها العقاب الشديد .
تعكس هذه السورة صورة من الصور الواقعية في حياة الدعوة في عهدها الأول . وهي في الوقت ذاته نموذج يتكرر في كل بيئة . . صورة اللئيم الصغير النفس ، الذي يؤتى المال فتسيطر نفسه به ، حتى ما يطيق نفسه ! ويروح يشعر أن المال هو القيمة العليا في الحياة . القيمة التي تهون أمامها جميع القيم وجميع الأقدار : أقدار الناس . وأقدار المعاني . وأقدار الحقائق . وأنه وقد ملك المال فقد ملك كرامات الناس وأقدارهم بلا حساب !
كما يروح يحسب أن هذا المال إله قادر على كل شيء ؛ لا يعجز عن فعل شيء ! حتى دفع الموت وتخليد الحياة . ودفع قضاء الله وحسابه وجزائه إن كان هناك في نظره حساب وجزاء !
ومن ثم ينطلق في هوس بهذا المال يعده ويستلذ تعداده ؛ وتنطلق في كيانه نفخة فاجرة ، تدفعه إلى الاستهانة بأقدار الناس وكراماتهم . ولمزهم وهمزهم . . يعيبهم بلسانه ويسخر منهم بحركاته . سواء بحكاية حركاتهم وأصواتهم ، أو بتحقير صفاتهم وسماتهم . . بالقول والإشارة . بالغمز واللمز . باللفتة الساخرة والحركة الهازئة !
وهي صورة لئيمة حقيرة من صور النفس البشرية حين تخلو من المروءة وتعرى من الإيمان . والإسلام يكره هذه الصورة الهابطة من صور النفوس بحكم ترفعه الأخلاقي . وقد نهى عن السخرية واللمز والعيب في مواضع شتى . إلا أن ذكرها هنا بهذا التشنيع والتقبيح مع الوعيد والتهديد ، يوحي بأنه كان يواجه حالة واقعية من بعض المشركين تجاه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتجاه المؤمنين . . فجاء الرد عليها في صورة الردع الشديد ، والتهديد الرعيب . وقد وردت روايات بتعيين بعض الشخصيات . ولكنها ليست وثيقة . فنكتفي نحن بما قررناه عنها . .
والتهديد يجيء في صورة مشهد من مشاهد القيامة يمثل صورة للعذاب مادية ونفسية ، وصورة للنار حسية ومعنوية . وقد لوحظ فيها التقابل بين الجرم وطريقة الجزاء وجو العقاب . فصورة الهمزة اللمزة ، الذي يدأب على الهزء بالناس وعلى لمزهم في أنفسهم وأعراضهم ، وهو يجمع المال فيظنه كفيلا بالخلود ! صورة هذا المتعالي الساخر المستقوي بالمال ، تقابلها صورة " المنبوذ " المهمل المتردي في( الحطمة )التي تحطم كل ما يلقى إليها ، فتحطم كيانه وكبرياءه . وهي( نار الله الموقدة )وإضافتها لله وتخصيصها هكذا يوحي بأنها نار فذة ، غير معهودة ، ويخلع عليها رهبة مفزعة رعيبة .
وهي( تطلع )على فؤاده الذي ينبعث منه الهمز واللمز ، وتكمن فيه السخرية والكبرياء والغرور . . وتكملة لصورة المحطم المنبوذ المهمل . . هذه النار مغلقة عليه ، لا ينقذه منها أحد ، ولا يسأل عنه فيها أحد ! وهو موثق فيها إلى عمود كما توثق البهائم بلا احترام ! وفي جرس الألفاظ تشديد : عدده . كلا . لينبذن . تطلع . ممددة وفي معاني العبارات توكيد بشتى أساليب التوكيد : ( لينبذن في الحطمة . وما أدراك ما الحطمة ? نار الله الموقدة . . )فهذا الإجمال والإبهام . ثم سؤال الاستهوال . ثم الإجابة والبيان . . كلها من أساليب التوكيد والتضخيم . . وفي التعبير تهديد ( ويل . لينبذن . الحطمة . . . نار الله الموقدة . التي تطلع على الأفئدة . إنها عليهم مؤصدة . في عمد ممددة ) . .
وفي ذلك كله لون من التناسق التصويري والشعوري يتفق مع فعلة( الهمزة اللمزة ) !
لقد كان القرآن يتابع أحداث الدعوة ويقودها في الوقت ذاته . وكان هو السلاح البتار الصاعق الذي يدمر كيد الكائدين ، ويزلزل قلوب الأعداء ويثبت أرواح المؤمنين .
وإنا لنرى في عناية الله سبحانه بالرد على هذه الصورة معنيين كبيرين :
الأول : تقبيح الهبوط الأخلاقي وتبشيع هذه الصورة الهابطة من النفوس .
والثاني : المنافحة عن المؤمنين وحفظ نفوسهم من أن تتسرب إليها مهانة الإهانة ، وإشعارهم بأن الله يرى ما يقع لهم ، ويكرهه ، ويعاقب عليه . . وفي هذا كفاية لرفع أرواحهم واستعلائها على الكيد اللئيم . . .
وقوله : { وَما أدْرَاكَ ما الْحُطَمَةُ } يقول : وأيّ شيء أشعرك يا محمد ما الحطمة ، ثم أخبره عنها ما هي ، فقال جلّ ثناؤه : هي { نارُ اللّهِ المُوقَدَةُ الّتِي تَطّلِعُ عَلى الأفْئِدَةِ } يقول : التي يطلع ألمها ووَهَجُها القلوب والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى . حُكي عن العرب سماعا : متى طَلَعْتَ أَرْضَنا وطلعتُ أرضي : بلغت .
والاطلاع يجوز أن يكون بمعنى الإِتيان مبالغة في طلع ، أي الإِتيان السريع بقوة واستيلاء ، فالمعنى : التي تنفذ إلى الأفئدة فتحرقها في وقت حرق ظاهر الجسد .
وأن يكون بمعنى الكشف والمشاهدة قال تعالى : { فاطلع فرآه في سواء الجحيم } [ الصافات : 55 ] فيفيد أن النار تحرق الأفئدة إحراق العالِم بما تحتوي عليه الأفئدة من الكفر فتصيب كل فؤاد بما هو كِفاؤه من شدة الحرق على حسب مبلغ سوء اعتقاده ، وذلك بتقدير من الله بين شدة النار وقابلية المتأثر بها لا يعلمه إلا مُقدِّره .